رفيق خوري
شطف المدرج يبدأ من فوق، بحسب المثل الشعبي، ولا أحد كان في حاجة إلى القراءة بين السطور في وثيقة “التوجيه الاستراتيجي المؤقت” لإدارة الرئيس جو بايدن ليدرك أن مراجعة المواقف عملية جذرية في واشنطن. ولم يكن من الصعب على حلفاء أميركا وخصومها أن يروا ما هو أبعد من المراجعة التقليدية في السياسات عند الانتقال من إدارة إلى أخرى.
ففي الوثيقة تركيز شديد على المواجهة مع الصين وروسيا في منطقة المحيطين الهادي والهندي، وتخفيف للاهتمامات في الشرق الأوسط: أميركا “لن تشارك ولن تخوض في حروب أبدية، ولن تعطي شيكاً على بياض لشركائها، ولا ترى حلاً لمشاكل المنطقة باستخدام القوة العسكرية”. وحين بدأت الإدارة عملياً تغيير المقاربة مع إيران، كان من الطبيعي أن تتوجه عواصم المنطقة نحو تغيير المقاربة في العلاقات الإقليمية.
وهكذا، رأينا عملية الحراك الرسمي في المنطقة بعد سنوات من الحراك الشعبي، عنوان الحراك الرسمي هو مراجعة المواقف، وعنوان الحراك الشعبي كان تغيير الأنظمة، بما قاد إلى فوضى واندفاع تيارات متشددة. بداية الحراك الرسمي، حتى الآن، هي حوار بين السعودية وإيران في العراق، محادثات مصرية تركية بعد سنوات من العداء واحتضان أنقرة للإخوان المسلمين، تبدل تركي في الموقف من الرياض، محادثات سعودية سورية في دمشق، وقبل ذلك، انفتاح سعودي إماراتي على العراق، والبقية تأتي.
والسؤال الطبيعي هو: هل هذه متغيرات في أفق استراتيجي لإعادة ترتيب المواقع في اللعبة الجيوسياسية أم في إطار تكتيكي للانسجام مع المرحلة وإمكان عودة أميركا إلى الاتفاق النووي الإيراني، هل ما يحدث هو تحت المظلة الأميركية أم ضمن الاستعداد لمفاجآت أميركية من النوع المألوف في انقلاب المواقف في واشنطن؟ أحد الأجوبة الرائجة أن القادة يسعون لإخراج المنطقة من كونها “ساحة لتصفية الحسابات” الإقليمية والدولية في اتجاه البحث عن نظام إقليمي أمني جديد. نظام كثرت الدعوات إليه من دون حماسة على أساس أن يكون نوعاً من “هلنسكي شرق أوسطية”، في إشارة إلى مؤتمر الأمن الأوروبي في هلنسكي والأمن الذي أرساه في القارة العجوز.
وهناك بالطبع جواب آخر قدمه البروفيسور جوناثان كيرشنر أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدولية في كلية بوسطن، ففي ظل النظرة السلبية لدى بلدان في المنطقة إلى صفقة أميركية إيرانية على طريقة الصفقة أيام الرئيس باراك أوباما، يرى كيشنر وجهاً إيجابياً للانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط. ما هو؟ إنه “بدء بلدان المنطقة تصور حياتها من دون التزامات أميركية قوية”، فمن الصعب تصور أن يقدم بايدن ومن يخلفونه عند حدوث أزمة وتهديد أمني كبير على ما أقدم عليه الرئيس جورج بوش الأب عندما “أخرج بالقوة الجيش العراقي من الكويت ومنع صدام حسين من الهيمنة السياسية على منابع النفط في الخليج”، فأميركا تغيرت، والمنطقة تغيرت، وحسابات النفط تغيرت.
لكن الواقع أن التوصل إلى صفقة أميركية إيرانية عملية طويلة ومعقدة ولا تحدث بكبسة زر، فلا واشنطن، وإن أعطت الأولوية لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، يمكنها التخلي عن الحد من البرنامج الصاروخي الباليستي والنفوذ الإيراني والسلوك المزعزع للاستقرار، ولا طهران، وإن أعطت الأولوية لرفع العقوبات، تريد أن تصبح دولة “عادية” بلا صواريخ ولا نفوذ ولا ميليشيات تدير الحروب بالنيابة عنها. ولا سلسلة الحوارات العربية والإقليمية الدائرة تقود إلى استقرار فعلي من دون أربع قضايا مهمة وملحة، الأولى هي تسوية سياسية في سوريا على أساس القرار 2254 أكد عليها وزراء الخارجية في الدول الصناعية السبع، كما أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، والثانية هي تسوية سياسية على أساس “حل الدولتين” في فلسطين بعد ما ولدت “صفقة القرن” أيام ترمب ميتة، والثالثة هي العودة الفعلية إلى سياسة حسن الجوار، من خلال احترام إيران سيادة الدول العربية والتوقف عن إنشاء الميليشيات وتهديد الخليج بالصواريخ، والرابعة هي تسوية سياسية عادلة تنهي حرب اليمن وانقلاب الحوثيين على الشرعية.
وهذا يحتاج إلى ما يتجاوز مراجعة المواقف إلى تغيير المواقف بالفعل في طهران وتل أبيب ودمشق وصنعاء، ويحتاج أيضاً إلى تفاهم أميركي روسي صيني، في حين أن المواجهة بين الكبار هي “أمر اليوم”. وليس ذلك وراء الباب.