عبدالله السناوي
بعد خمسين سنة على عاصفة (15) أيار/ مايو (1971)، التي أفضت بنتائجها وتداعياتها إلى أخطر انقلاب استراتيجي في السياسات والتوجهات العامة بالعالم العربى، لا في مصر وحدها، فإننا بحاجة حقيقية لإعادة قراءة الحوادث في سياقها وظروفها حتى نفهم ما جرى لنا وبنا. كان رحيل «جمال عبدالناصر» فى (28) أيلول/ سبتمبر (1970) صاعقا، غير أن الحزن الغامر الذى ملأ الشوارع لم يحل دون صراعات السلطة، فالسلطة أية سلطة لا تعرف الفراغ. لم يكن نائبه «أنور السادات» شخصية مجهولة، فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة فى أروقة التنظيم السياسى ودوائر الدولة، ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول. تكفلت المجموعة المهيمنة على مقاليد الأمور داخل مؤسسات الدولة بالدعوة إلى انتخابه رئيسا قبل أن يودعها السجون بعد زهاء سبعة أشهر بتهمة التآمر عليه، فيما سميت بـ«ثورة التصحيح»، أو «انقلاب ١٥ أيار/ مايو» بتوصيف آخر. هذه حقيقة أولى فى قصة ما جرى. كان «زكريا محيى الدين» خيار «هيكل» الأول لخلافة «عبدالناصر»، لكن اسمه استبعد سريعا إثر تحركات واتصالات وتوافقات بين جماعات متعارضة على إبعاد أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق عن أى دور. فى ظروف وتوازنات معقدة، تقاسمت السلطة شخصيتان متناقضتان، «أنور السادات» رئيسا و«على صبرى» نائبا. كانت اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا، التى أعلنت فى بنى غازى يوم (١٧) نيسان/ إبريل (١٩٧١)، عنوان الصدام بين الرجلين لا جوهره. عارض «على صبرى» توقيع الاتفاقية وصارح «السادات» برأيه أثناء وجودهما معا فى بنى غازى، طالبا تأجيل النقاش حولها لحين العودة للقاهرة. فى اجتماع اللجنة التنفيذية العليا يوم (٢١) نيسان/ إبريل باستراحة القناطر الخيرية، جرت مواجهات مباشرة بين الرئيس ونائبه، وكانت الأغلبية مع النائب. بعد أربعة أيام نقل الصراع إلى مستوى أوسع فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، وخرجت أزمة السلطة إلى العلن. طُرحت أسئلة كثيرة بينها مدى صلاحيات الرئيس، وإلى أى حد يلتزم بالقيادة الجماعية، وموعد الحرب وجاهزية الاستعداد لها. تلاحقت مشاهد الأزمة. عُزل «على صبرى» من منصبه نائبا للرئيس فى الأول من أيار/ مايو. دبت خلافات بين المجموعة المهيمنة على الطريقة التى يتوجب عليهم التصرف بمقتضاها. استقر الرأى بعد وقت قصير على تقديم استقالة جماعية، أعلنت من الإذاعة يوم (١٣) أيار/ مايو. كان ذلك خطأ هائلا فى إدارة الأزمة أفضى إلى اعتقالهم واتهامهم بالتآمر. كما هو معروف وشائع فإن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» هو من اقترح اتباع الخطوات الدستورية والاستقرار على شخص النائب كانتقال سلمى وآمن للسلطة فى أوضاع حرب حسب جميع الشهادات المعلنة للذين اتهموا بالتآمر لإطاحة «السادات»، فإن خطأهم الأكبر هو أنهم لم يتآمروا! جرى وصفهم بـ«مجموعة على صبرى»، نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت، لكنهم لم يبدوا حماسا للصعود بـ«الرجل القوى» إلى موقع رئيس الجمهورية بعد رحيل «عبدالناصر»، وفضّلوا بصورة أو أخرى «الرجل الضعيف ـ أنور السادات» بظن أنه يمكن التحكم فيه. هذه قصة معتادة فى التاريخ المصرى وأثمانها معروفة. فى أحداث أيار/ مايو اختلطت أوراق وتداخلت اعتبارات متناقضة. لم تكن هناك إدارة واحدة للأزمة، ولا كان هناك تجانس بين الذين ضمهم قفص واحد فى المحاكمات التى جرت. ما هو أكثر مأساوية أنه جرى ضربهم عن طريق معاونيهم وأوثق رجالهم. تولى «ممدوح سالم» أقرب رجال أمين عام التنظيم الطليعى ووزير الداخلية «شعراوى جمعة»، السيطرة على الملف الأمنى دون أى مقاومة. وتولى الفريق «محمد صادق»، رئيس هيئة الأركان حسم الموقف العسكرى فى مواجهة القائد العام، الفريق أول «محمد فوزى» بلا أى ممانعة. وبادر «محمد عبدالسلام الزيات» للسيطرة على وزارة الإعلام، بعد أن غادرها الوزير المستقيل «محمد فائق»، دون أن يكون معه أحد يسنده. وتقدم اللواء «الليثى ناصف»، قائد الحرس الجمهورى لاعتقال المجموعة القيادية كلها بمن فيهم «سامى شرف»، الذى كان يأخذ منه تعليماته حتى أيام قليلة مضت. انهار كل شىء فى لحظة واحدة وسقط النظام من داخله. كما هو معروف وشائع فإن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» هو من اقترح اتباع الخطوات الدستورية والاستقرار على شخص النائب كانتقال سلمى وآمن للسلطة فى أوضاع حرب. وكما هو معروف وشائع فإنه قال للرئيس شبه اليائس: «إن الشخصين الرئيسيين فى الموقف في ما يتعلق بك هما اللواء الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى، والفريق محمد أحمد صادق، رئيس أركان القوات المسلحة»، لافتا انتباهه أن «الشرعية معك». بصورة أو أخرى كان دور «هيكل» محوريا فى إدارة الأزمة. بقوة الحقائق لم يكن «السادات» داهية بقدر ما ساعدته تناقضات النظام على كسب صراعات السلطة فى عاصفة مايو لماذا انحاز إلى «السادات» فى الصراع على السلطة؟ لم تكن توجهاته استبانت، وقد عارضها جذريا وأدخل السجن بسببها فى اعتقالات ايلول/ سبتمبر (1981)، كما لم تكن تحفظاته على «مجموعة مايو» تسمح له بأى رهان عليها، بل لعله كان يستشعر أنها تود إذا ما آلت السلطة لها أن تودعه خلف القضبان. هذه حقيقة شبه غائبة فى كل السجالات التى جرت على مدى نصف قرن. بصورة أو أخرى راجع «تجربة أيار/ مايو» فى حلقات مسجلة عن سيرة حياته، وهو يستعرض ما قبل حرب أكتوبر (1973)، لم يتسن لها أن تبث حتى الآن، ولعلى لعبت دورا فى إذابة الجليد الإنسانى بين الطرفين، لكن ما جرى كان قد جرى. فى نهاية شهر آذار/ مارس (1971)، قبل شهر ونصف الشهر من العاصفة، حسب مذكرات الفريق أول «محمد صادق»، جرت واقعة كاشفة للفجوات والتعقيدات بين «هيكل» و«مجموعة مايو». أثناء دخول الفريق أول «محمد فوزى» مبنى الوزارة بكوبرى القبة لاحظ وجود المحرر العسكرى لـ«الأهرام» «عبده مباشر»، واصل صعود السلم وانتظر بالشرفة المطلة على المدخل، ومن خلفه القادة الذين كانوا بصحبته، وما إن رأى محرر «الأهرام» يدخل من الباب، وقبل أن يتجه يمينا بالدور الأرضى فى الطريق إلى مكتب رئيس الأركان ناداه قائلا: «يا مباشر.. قل لهيكل»… ثم أطلق عبارة تتوعد بالحساب العسير. رد عليه: «يا سيادة الوزير أنتم ناس كبار مع بعض، وتستطيع أن تبلغه ذلك بنفسك، أما أنا فلا أستطيع نقل مثل هذه الرسائل». قال «فوزى»: «طيب يا مباشر». فى ذلك اليوم ـ حسب شهادة «صادق» ـ فإن القادة المرافقين للوزير فوجئوا بما حدث، وكل من فى المبنى أصابتهم المفاجأة. وفق النص الكامل لشهادته تتبدى إشارتان جوهريتان. الأولى ــ لم يكن الرئيس «السادات» على علم بما يجرى داخل القوات المسلحة، وأنه كان خلال تلك الفترة فى حالة هلع وفزع. والثانية ــ أنه من بادر بالاتصال بالأستاذ «هيكل» لإبلاغه بحقيقة موقفه من الأزمة. بقوة الحقائق لم يكن «السادات» داهية بقدر ما ساعدته تناقضات النظام على كسب صراعات السلطة فى عاصفة مايو.