حسن فحص|المدن
لم تكن ردة الفعل الايرانية على دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين عام 2011 بعد احداث آذار من ذلك العام، بالحجم والمستوى الذي صدر عنها بعد سنة، اي 2012 عند إعلان العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن مشروع الوحدة السياسية بين المملكتين السعودية والبحرينية، وان هذا الخيار جاء نتيجة تباينات خليجية في التعامل مع الدعوة التي اطلقتها الرياض قبل أشهر من ذلك للانتقال من التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي الى مرحلة الوحدة السياسية.
الايرانيون حينها، قرأوا المشروع السعودي الاول والثاني باعتباره يدخل في الرؤية السعودية لتوحيد الجهد الخليجي تحت القيادة السعودية لمواجهة الدور والنفوذ الايراني، بما يساعد الرياض على توظيف هذه الرؤية في اطار مشروعها لفرض نفسها لاعبا اقليميا في مواجهة الدور الايراني.
هذه القراءة ترافقت مع تصعيد ايراني واضح، وصل حد التهديد بالتدخل العسكري المباشر لمنع هذه الوحدة السياسية بين السعودية والبحرين، وذهبت دائرة التوجيه السياسي والعقائدي في حرس الثورة الاسلامية الى اعلان استراتيجيتها “العاشورائية” لمواجهة هذا المشروع، أي ما يعني استعداد ايران لخوض مواجهة مفتوحة حتى ولو أدت الى استجرار تدخل خارجي وتعرض ايران الى حرب مدمرة، لانها ستكون على غرار واقعة كربلاء، التي انتصر فيها الامام الثالث للشيعة الاثني عشرية الحسين بن علي بن ابي طالب على السلطة الاموية بقيادة يزيد بن معاوية على الرغم من الفاجعة التي حصلت بمقتل الحسين وجميع اهله واصحابه.
استحضار هذه الحادثة، ولها شواهد اخرى متعددة في السلوك السياسي والأمني الآتي من بعد ثقافي في النظام الإيراني، كان المحفز عليه وله، ما جاء في كلام وزير الخارجية محمد جواد ظريف في التسريب الصوتي والذي اعتبر فيه ان “الطريق الذي نسلكه، وهو خيار الشعب”. وعلى الرغم من النقد الذي يمكن ان يوجه لكلام ظريف هذا، الا انه يصدر عن إدراك عميق لدى هذه الشخصية السياسية غير المنفصلة عن المؤثر او المحرك الثقافي للاجتماع الايراني السياسي والشعبي. وهو كلام يمكن ان يكون في ظاهره معاكسا لما توحي به الحقائق المباشرة من ان السلوكيات الايرانية السياسية وانها نتيجة خيارات السلطة والقيادات الحاكمة، الا ان كلامه كان تعبيرا عن حقيقة ثقافية واقعية.
فاي حرب في الثقافة الايرانية والقراءة الدينية للاجتماع الايراني، هي “حرب مقدسة”، وهذه القداسة تسير على من يشارك فيها، اي ان القداسة تتوسع دائرتها بحيث لا تبقى محصورة بالحرب نفسها، بل تنتقل الى المحارب ايضا. لكن هذه القداسة لا تشمل او تسري على غير المحاربين وقادة الحرب، فيخرج من دائرتها كل ما يدخل في اطار ومجال الحوار والتعاون، حتى الاشخاص الذين يدعون الى الحوار او يتولون مهمة الحوار.
تغليب “المقدس الحربي”، هو تغليب للمكون الديني والايديولوجي على حساب مكونات اخرى في الهوية الايرانية المركبة. مشابه لتغليب االبعد الثوري في الامام الحسين على بقية الائمة الاحد عشر الاخرين الذين ذهبوا الى خيار التعايش والعمل الثقافي والحواري.
في التعامل مع هذا المكون الايديولوجي يمارس الاجتماع الايراني تغليبا من نوع اخر، يصبح معه الدين او المذهب هو التجلي الحصري للمواجهة والحرب اقتداءا بسيرة الامام الحسين بن علي وواقعة كربلاء واليوم العاشر من محرم، اذ تفرض طقوسية هذا اليوم وقداسته نوعا من الوحدة على كل الايرانيين بمختلف توجهاتهم بحيث تلغي كل او اي نوع من الاختلاف بينهم مؤقتا، وتنقل القتال في ميدان الحرب الى مصاف الرمزية الدينية والبعد المعنوي وعامل الوحدة بينهم.
ان يقول ظريف في التسريب الصوتي انه كان على خلاف في الرؤية مع الجنرال قاسم سليماني، يعني انه تجاوز الحدود المرسومة التي تجرم وتدين من يوجه النقد لرجل الحرب المقدس، وان اعتذاره لاحقا عن هذا الاختلاف في الرؤية يصب في اطار فهمه للمركب الثقافي الذي غلب المقدس الايديولوجي على سائر المكونات الاخرى. ومن حاول تقديم المكون الديني والايديولوجي وحصره في بعد واحد، اراد ان يركب الثقافة المجتمعية بما يخدم رؤيته التي غيبت البعد الحواري لشخصية الحسين الذي لم يذهب الى الحرب، بل خرج تلبية لحاجة الجماعة التي دعته لقياداتها، وعدم التزام السلطة بما سبق ان اتفق عليه في صلح الحسن ومعاوية، والذي انتج عشرين سنة من التعايش والحوار كان فيها الحسين لمدة عشر سنوات إماماً الى جانب أخيه الحسن، وعشرة اخرى إماماً لوحده.
ان ما دفع ظريف للاعتذار، هو ادراكه ان الازمة لا يمكن ان تكون محصورة في البعد السياسي الذي انطلق منه في محاولة الدفاع عن المهمة التي يتولاها في ادارة الشأن الدبلوماسي، فضلا عن معرفته بانه ليس ولن يكون “مقدسا” كما المقاتل الذي كشف عن اختلاف الرؤية معه، وان توجيه النقد لهذا المقدس هو تهديد لمنظومة متكاملة بنت السلطة عليها نظريتها في الهوية وبناء الاجتماع السياسي والثقافي الذي يغلب هذا البعد من هذه الهوية على سائر المكونات الاخرى.
استنفار الجهات الممثلة لهذه القدسية في النظام، هو محاولة للدفاع عما يمثل ورقة قوة ودافع استمرار لسلطتهم التي تعرضت للتهديد نتيجة كلام ظريف في كلامه عن ثنائية “الدبلوماسية والميدان” بينه وبين سليماني، وسيستمرون في الدفاع طالما ان ظريف يشكل تهديدا مستمرا وحقيقيا اذا ما قرر خوض الانتخابات الرئاسية واستطاع العبور من مقصلة مجلس صيانة الدستور في ظل ما يدور من حديث حول حظوظه المرتفعة بالوصول الى رئاسة السلطة التنفيذية.