منير يونس
الصراع على أشده في هذه الأيام، في ميادين استخدام (أو عدم استخدام) جزء من احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة لاستمرار دعم أسعار السلع والمواد الحيوية، أو لتمويل البطاقة التي ستوزع على الفقراء عوضاً عن الدعم المزمع الغاؤه. أشعل فتيل الصراع تهديد حاكم البنك المركزي بوقف صرف دولارات من “لدنه” لزوم استيراد المحروقات والدواء والقمح وعدد من السلع الغذائية الأساسية اعتباراً من نهاية شهر أيار/ مايو الحالي، بحجة ان ما بقي لديه من احتياطي الزامي لا يمكن المساس به تحت اي ظرف، ونسبته 15 في المائة من الودائع الدولارية العائدة لعملاء المصارف من المودعين المقيمين وغير المقيمين. وكعادة اللبنانيين في ممارسة فولكلورهم الوطني المفضل في “دبكة” انقساماتهم الأفقية والعمودية الحادة، اصطفوا متقابلين بزجل “قرادي” شرس بين مؤيد لحاكم البنك المركزي في حجته هذه، وبين معارض غير مقتنع بها البتة. قبل خوض غمار تفنيد صوابية المعركة أو انتهازيتها، يتعين التذكير بأن ما بقي من الودائع الدولارية، دفترياً أو إسمياً، هو أكثر من 100 مليار بقليل. أما عملياً، فلم يبق إلا “نذر” 16 ملياراً يدعي مصرف لبنان انها بحوزته، من دون تقديم جردة حساب مُدققة وفقاً لمعايير الشفافية الدولية. أما بعد، فتضم جوقة الباكين على لبن الاحتياطي المسكوب جهات “صادقة” وأخرى “منافقة” على أرض صغيرة تجمع الشاة والذئب جنباً الى جنب. الصادقون هم اصحاب الودائع، وعددهم أكثر من 2.5 مليون مودع حُرموا من سحب حقوقهم، مقابل حفنة من مئات النافذين استطاعوا تهريب الأموال بالمليارات الى الخارج بعد اندلاع “انتفاضة 17 تشرين 2019” وقبلها. فعلوا فعلتهم الشنيعة أخلاقياً هذه، برغم قانونيتها، بتواطؤ مصرفي وقضائي وقانوني وسياسي مريب! في السياسة، يحاول البعض الآن استخدام ورقة الحفاظ على الاحتياطي ضد رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب. في هذا الاستخدام سحر اسود قد ينقلب على مستخدميه السحرة، إذ ظهر الرئيس ميشال عون، من حيث لا يدري هو، كما لو انه مع الفقراء محتاجي الدعم، او مع استخدام مال من الاحتياطي لتمويل البطاقة التمويلية برغم أنف حارمي الفقراء من فتات العيش بالحد الأدنى. فتتوفر شحمة اضافية على فطيرة العونيين المحتربين دونكيشوتياً مع الجميع وعلى كل الجبهات تقريباً. أما إحراج رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب فلا طائل منه. الرجل مستقيل من موقع لا لبن عصفور فيه، ومن احلام سياسية طفولية وئدت في مهدها. فاحراقة لا معنى له، و”ما لجرح بميت إيلام”، كما يقول المتنبي. الأمر عينه ينسحب على وقف سلفات الخزينة لشركة كهرباء لبنان، على أنه احراج للعهد والحكومة المستقيلة. فالعتمة ستعمي قلوب الجميع، بلا تفرقة بين مناصري العهد ومعارضيه، وكارهي حسان دياب ومريديه. وفي سياق الالتباسات المستحكمة، ثمة أسئلة عن المنافحين الجدد عن المودعين، وعن دعاة الحنبلية والارثوذكسية المالية والمصرفية المستجدة: – أين كانوا من سياسات مالية ونقدية، في مدى عقدين من الزمن على الأقل، أتت أخطاؤها الصارخة وخطاياها الجسيمة تدريجياً على أخضر الودائع ويابسها؟ – لماذا غابوا عن السمع بأذن من طين وأخرى من عجين عندما صرخ المودعون بعد “حراك 17 تشرين” من ألم حرمانهم حق سحب ودائعهم بالدولار؟ وما رأيهم بممارسة اقتطاع ظالم وقسري بنسبة تزيد على الثلثين من ودائع الناس عند سحبها المقتر والمقطر بالليرة المتهاودة القيمة؟ – أين تموضعوا ملتحفين بالتقية عندما اسقط مشروع قانون ضبط التحويلات الى الخارج (الكابيتال كونترول) قبل اكثر من سنة؟ وكيف يرون المماطلة به حتى اليوم ليستمر بالضرب من يضرب وبالهرب من يهرب؟ – لماذا استفاقوا متأخرين بعمش في العيون لمتابعة حسابات مصرف لبنان الفاقد 50 في المائة من احتياطاته منذ اندلاع الأزمة قبل 18 شهراً؟ فبعدما كانت نحو 32 مليار دولار خسر المصرف 16 ملياراً، منها 8 مليارات ذهبت للدعم المشوه احتكاراً وتهريباً وتخزيناً وانتهازيةً.. والباقي تسرب من حيث لا حسيب ولا رقيب. يبدو ان تركيز النقاش حصراً على الاحتياطي الالزامي عبارة عن تعمية على قاعدة شجرة تغني عن غابة. فالمتنطحون للحفاظ على الاحتياطي العتيد يأخذون أولاً وأخيراً برأي حاكم لا شريك له، متناسين ان الرجل فقد اسطورة نجاحه المطلق، متحولاً الى جزء من المشكلة. ودون اعتباره جزءاً من الحل إثارة جدل يتجاوز الحدور بعدما بات (الى جانب من لفّ لفه من الأقارب والمقربين) متهماً دولياً تلاحقه التحقيقات في سويسرا وبريطانيا وفرنسا.. والحبل على جرار الدعاوى الدولية. صحيح ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، بيد أن المنطق التحوطي السليم يقضي بكف يد المتهم مؤقتاً عن اتخاذ قرارات مالية مصيرية الى حين الفصل قي قضيته، لا محاباته في اتخاذ هكذا قرارات تمس معيشة أكثر من نصف اللبنانيين في صميم فقرهم المدقع، وترك حبل المال على غارب تصرفات ادخلت البلاد في ورطة تاريخية غير مسبوقة بمخاطرها الجمة. إقرأ على موقع 180 لبنان: التدقيق الجنائي ينطلق.. وفرنسا تُدقّق بإحتياطي الذهب الى ذلك، يمكن تذكير “حماة العرين” و”حراس بوابة الاحتياطي الإلزامي” بجملة بديهيات قد يجهلونها حمقاً أو يتجاهلونها خبثاً، مثل أنه يصعب فصل قضية الاحتياطي عن اقرار مشروع قانون “الكابيتال كونترول” (ضبط التحويلات) لضمان عدم النزف الإضافي غير المبرر للعملات الصعبة ومن الاحتياطي تحديداً. علاوة على أنه لا قيمة حقيقية للاحتياطي من دون تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان لمعرفة الفجوات فيها والخسائر التي منيت بها، وأسبابها والمسؤول عنها، وصولاً الى سبل معالجتها. زد على انه لا قيمة محسومة لاحتياطي محسوب على قاعدة نسبة من أصل متبخر أساساً. فثمة من يعتقد جازماً بأن في الأصل خسارة بأرقام قياسية كما أكدت محاسبياً شركة “لازار” الاستشارية الدولية. ومن البديهيات، الربط العضوي بين الاحتياطي وما يبقى من أموال بعد التوزيع العادل للخسائر الذي لا بد منه مهما طال زمن دفن رأس النعامة السياسية في الرمل المالي. ذلك التوزيع المؤلم هو السبيل الوحيد لتحميل من يتحمل (بما فيهم الدولة) واعفاء الآخرين من تبعات لا طاقة لهم عليها. والمقصود بالنسبة للمودعين “قصة شعر” أو ما يعرف بـ”هيركات” من الودائع لا سيما الكبيرة منها وتلك التي استفادت من الفوائد الدسمة على سندات الدين المال العام، والبالغ تراكمها 77 مليار دولار منذ التسعينيات الماضية. فأي شطب من تلك الفوائد غير العادلة ومن الودائع الكبيرة المتراكمة جشعاً يغير معادلة حساب الودائع جذرياً، وبالتالي يغير احتساب الاحتياطي الالزامي بنسبة 50 في المائة على الاقل. وامعاناً في التفصيل غير الممل عند أولي الألباب، لا يمكن فصل القضية أيضاً عن استعادة الأموال المحولة الى الخارج منذ العام 2016، العام الذي اجترح فيه رياض سلامة هندسات مالية (لجذب الدولارات) كبّدت المال العام أكثر من 6 مليارات دولار، ذهب معظمها لجيوب مصرفيين ومضاربين قدم لهم مصرف لبنان ضمانات لتحقيق أرباح وعوائد تزيد على 30 في المائة، في وقت كانت فيه الفوائد العالمية المعيارية 1 في المائة فقط. فضلاً عن أنه لا يمكن البت نهائياً بمصير الاحتياطي الالزامي قبل هيكلة المصارف بالزام مساهميها، وفقاً لمعايير بازل 2 و3 والمعيار المحاسبي الدولي رقم 9، برسملة مصارفهم المتعثرة والمفلسة بمبالغ تزيد على 20 مليار دولار. خلاف ذلك، ستبقى مصارف “زومبي” ميتة، أو شبه حية تعيش فقط على دماء ما تبقى من أموال المودعين في الاحتياطي الالزامي. ثم، هل يعتقد المدافعون عن الاحتياطي ولو للحظة ان حاكم المصرف المركزي، بالتعاون مع المصارف، سيعمد فوراً الى رد ما تبقى من أموال الى اصحابها؟ هل يعتقدون بسذاجة ان الحفاظ على الاحتياطي يعني ان المودع سيذهب غداً الى مصرفه ويسحب ما يحق له؟ *** ما الحل؟ ربما على السياسيين، برغم تناكف بعضهم التحاصصي البغيض والشخصي المقيت، مصارحة اللبنانيين، واقتراح فترة سنة من التضحيات الاضافية تصرف خلالها 2 الى 3 في المائة من ودائعهم الاجمالية لتمويل البطاقة التمويلية لنحو 750 الف أسرة فقيرة ودعم الكهرباء، على أن يصار فور بدء العد العكسي إلى تأليف حكومة بصلاحيات خاصة بتنفيذ الاصلاحات المتفق عليها وفق المبادرة الفرنسية وشروط صندوق النقد الدولي بعد تلطيفها لا سيما اجتماعياً. ومع نهاية سنة الفرصة النادرة، تكون الانتخابات النيابية على الابواب والانتخابات الرئاسية بعدها، لتجديد الطاقم السياسي الحاكم، وفقاً لما يراه اللبنانيون في ضوء دروس مستقاة من المخاضات العسيرة. واذا تبين أن اللبناني مصر على تفضيل زعيمه التقليدي على كل الآخرين، وتقديم مصلحة طائفته الضيقة على مصلحة الوطن. والحال هذه، “ذنب كل واحد على جنبه” وكفى الله المؤمنين شر القتال بانتظار قيام جمهورية افلاطون العادلة.