الترسيم: هل وقع الأميركيون بـ”كمين بحري”؟
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
حين تمّت الدعوة إلى استئناف جلسات التفاوض غير المباشرة في الناقورة، سمع محيطون بقطب سياسي بارز يقول: “لن تُكتب الحياة لهذا المسار، وسنرتطم سريعاً بالجدار ونعود إلى مسار الجمود السابق”. صدم هؤلاء بموقف القطب السلبي الذي أتى مغايراً لكل الأجواء الإيجابية التي كانت سائدة، وحين تمّت مراجعته لفهم خلفيات موقفه، أعاد ترداد العبارة نفسها، مفسّراً موقفه من أنه نابع من عدم وجود اتفاق على صيغة معيّنة تضمن العودة إلى المسار واستمراريته، وطالما أن الأمر كذلك، يصبح الإنفجار مسألة وقت لا أكثر!
إذاً، كان المطلوب إحاطة التفاوض غير المباشر بـ”آلية تطبيقية” تكفل التزام المسار لضمان عدم الجنوح عنه، وكان يجب أن يُبرم تفاهم مع الطرف الأميركي، حين كان وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل موجوداً في بيروت، يشمل شروط العودة إلى التفاوض، من أين يبدأ وأين ينتهي قبل الدعوة إلى الجلسات، وهنا تقع مسؤولية هذا الخلل التقني على الجهة السياسية الضامنة للتفاوض من الطرف اللبناني، لا الوفد العسكري التقني المحصورة مهمته فقط في إدارة التفاوض على الطاولة، وعرض ما لديه من خرائط نموذجية وصلبة، لذا كان يجب أن يُواكَب الوفد بقرار أقوى يصدر عن الجماعة السياسية.
لكن ما حصل، أن الوفد العسكري التقني ذهب إلى التفاوض منزوعاً أولاً من عنصر القوة الذي يمثله توقيع المرسوم 6433، وثانياً جاءت العودة إلى المسار إنطلاقاً من تفاهمات سياسية أُبرمت “شفهياً” مع ديفيد هيل من دون العودة إلى الوفد، على قاعدة: تأجيل المرسوم مقابل عودة التفاوض، فيما لم تراعَ هذه التفاهمات بأي آلية، بل فقط بوعود، دفعت بالأميركي إلى الطلب من الجانب الإسرائيلي العودة إلى المسار، وهكذا كان.
كان يُفترض أن تُدشّن العودة من خلال جلستين، الأولى نهار الثلاثاء وتكون بمثابة “روداج”، والثانية تعقد في اليوم الذي يليه (الأربعاء) على أن يتم فيها الخوض بكافة التفاصيل. وكان الوفد الأميركي، بصفته راعياً للمفاوضات، يدّعي أنه وضع في صورة أن لبنان سينطلق في المفاوضات رسمياً بين الخطين 1 و 23، رغم أن التسريبات في الإعلام كان تشدّد على أن خط التفاوض بالنسبة إلى الوفد اللبناني هو 29. وانطلق الوفد الأميركي على ما يبدو من “علامات”، إن لم نقل وعوداً يزعم أنه تلقّاها من قصر بعبدا حين تقرّر تجميد توقيع المرسوم رقم 6433 كما طلب ونال هيل، ليتفاجأ الأميركيون نهار الثلاثاء بأن الوفد العسكري التقني لم يتأثر بكل الظروف السلبية التي أحاطت الملف طيلة الفترة الماضية وعادَ إلى طرح وتبنّي الخيارات المركزية نفسها، الخط 29 الذي يمنح لبنان 1430 كلم2 إضافية عن 860 تقع إلى الجنوب من الخط 23. وهنا، عاد الوفد الأميركي للطلب إلى الوفد اللبناني بحصر المفاوضات ضمن الخطين 1 و 23، ما اعتُبر من جانب الوفد اللبناني إملاءً، طلب على أثره وبعد جلسة ماراتونية شاقة دامت 5 ساعات العودة إلى لتنسيق موقفه مع الجهة السياسية، فرُفعت الجلسة.
في قصر بعبدا، أعاد رئيس الجمهورية ميشال عون أمام أعضاء الوفد، التشديد على أن العودة إلى المفاوضات كان يجب أن تُستأنف “بلا شروط مسبقة” وهذا موقف متقدّم من قبله، وقد أبلغ الوفد بأنه سيعود إلى الأميركيين لمناقشتهم، وعند هذه النقطة طلب إلى الوفد اللبناني عدم حضور جلسة الأربعاء ريثما تتّضح الصورة. والجانب السياسي اللبناني، كان يراهن، بالإستناد إلى المباحثات مع هيل، أن الأميركيين سيعملون على إنتاج صيغة “تسووية” ساد اعتقاد أن مركزها المفترض يقع إلى ما بعد الخط 23. رغم أن هذا الإعتقاد لم يقترن بوقائع دامغة سوى أنه يأتي من حرص أميركي في إبقاء “حقل كاريش” ضمن الحصة الإسرائيلية، ما جعل المستوى السياسي يظن أن نيل مساحات إضافية تقع جنوب الخط 23 أمر ممكن في حالة الثبات في المفاوضات.
لكن الأميركيين قلبوا كل تلك الصورة، برفضهم أولاً قبول طرح الخط 29 على النقاش، وحصر التفاوض ضمن الخطين 1 و 23 ومن دون أن يتعدى ذلك أي سقف آخر، وهم استندوا في ذلك إلى مزاعم بأنهم تلقوا وعوداً من قبل الجانب السياسي اللبناني بعدم العودة إلى الخط المطروح سابقاً (29) لكن الوفد العسكري، كما يزعم الأميركيين، لم يتقيد بمضمون التفاهم الذي ينكره أصلاً قصر بعبدا، وعاد إلى طرح الخط 29، ما أعتبره الأميركيون بمثابة “كمين بحري” جرى إيقاعهم به، فطلبوا على أثره تجميد جلسة الأربعاء والمسار بأكمله، ما يعني دفعهم الطرف الإسرائيلي إلى عدم الحضور، ما يُظهر أن الوفد اللبناني عملياً، يفاوض طرفين لا طرفاً واحداً، وأن الأميركي فريق خصم يمثل وجهة النظر الإسرائيلية وقائم على المصلحة الإسرائيلية ما جعله طرفاً أقرب إلى وسيط غير نزيه.
لكن، وإن صحّ الإدعاء الأميركي، هنا يجدر البحث والتنقيب عن سر الإنقلاب الرئاسي، وهل أن قصر بعبدا مارسَ لعبة ذكية على الطرف الأميركي قضت بتجميده “مرحلياً” توقيع المرسوم 6433 لقاء العودة إلى طاولة المفاوضات لكشف “عدم نزاهة الفريق الأميركي”، أم أنه وافقَ في الأساس على الشروط الأميركية، ثم عاد لاحقاً وعدّل في موقفه أمام حملة رفض مقايضة التعديلات على المرسوم بأي ملف آخر، وبعدما وجد صلابة لدى الوفد العسكري التقني، ورفضاً من قبله للخروج من دائرة طرح الخط 29 المعزّز بخرائط محصّنة بموجب إتفاقيات دولية؟ وعليه، هل يلجأ رئيس الجمهورية، بعد انكشاف الدور الأميركي السلبي، إلى توقيع المرسوم 6433 وإنتاج معادلة ضغط جديدة عنوانها: تأجيل الترسيم مقابل تأجيل المرسوم؟
نظرياً، جلسات المفاوضات غير المباشرة طارت إلى أجلٍ غير مسمى ريثما تتّضح صورة الإتصالات التي سيجريها الطرفان اللبناني والأميركي، والسبب يعود في الأساس إلى التعنّت الأميركي ورفض وسيطهم جان ديروشيه مناقشة “الخطوط كافة” كما سبق للوفد اللبناني أن طرح، بل طلب حصرها في إطارٍ واحد يخضع لوجهة النظر الإسرائيلية مقابل هروب إسرائيلي الدائم من فكرة مناقشة الخطوط ، رغم أنه كان يرمي خطوطاً عشوائية يميناً وشمالاً، ذلك لعلمه المسبق بصعوبة مقارعة الخطوط اللبنانية لكون مصدر قوّتها نابع من قوّتها القانونية، ما يدفع بالوسيط الأميركي إلى التردّد حيال استقدام خبراء دوليين كما طُرح خلال وجود هيل في بيروت، لعلمه بأنه أمر لن يعود بالفائدة عليهم بل قد تكون له انعكاسات مفيدة للجانب اللبناني.