كتب أنطوني جعجع…
في التاريخ، ثمة أخطاء يمكن فهمها وأخرى يمكن تبريرها أو تجاوزها فتمضي بتداعيات يمكن تحمّلها، وثمة أخطاء أو رهانات من نوع آخر لا يمكن النظر إليها على أنها من الهفوات التي يمكن لأي مسؤول ارتكابها، على أساس أن أحداً غير معصوم عن الخطأ، أو أن أحداً ليس من صنف الآلهة.
وقد يكون في التبرير الثاني الكثير من الصحة على المستوى البشري والإنساني المحض، لكن على المستوى السياسي والقيادي، لا مكان لأي أسباب تخفيفية خصوصاً في مجال حسابات أو رهانات أو غايات تتعلق بمصير شعب ووطن، ولا مكان لأي أعذار أو تبريرات عندما يجر الخطأ السيئ خطأ أسوأ لا يمكن الالتفاف عليه أو العودة به إلى الوراء.
والواقع أن حال الانكسار أو الإحباط الذي طرق أبواب المسيحيين تباعاً، لم يكن نتيجة هزائم عسكرية دراماتيكية، وهم الذين اثبتوا على مستوى الأفراد كفاية عالية في القتال والصمود، بل نتيجة أداء القيادات السياسية والعسكرية والميليشيوية التي أعقبت استشهاد الرئيس بشير الجميل، أي القيادات التي تشاء الصدف أن تكون اليوم هي نفسها بلا زيادة أو نقصان منذ نحو أربعة عقود.
وهنا يكمن السؤال: ماذا دفع تلك القيادات إلى ارتكاب هذه الأخطاء المتكررة والمتعددة، هل هو نقص في الكاريزما أو نقص في الخبرة أو نقص في التشاور أو نقص في الرؤية أو نقص في الدعم الإقليمي والدولي، أو مؤامرات ومكائد وحلول قسرية طبخها الكبار في السر وفي العلن، أو أنها كل ذلك مجتمعاً؟
شيء واحد يكاد لا يقبل الجدل على مستوى القيادات المارونية، ويتمثل في أن معظم هذه الأخطاء وقعت انطلاقاً من سؤال واحد تقريباً: كيف الوصول إلى رئاسة الجمهورية حتى لو كانت منصباً رمزياً؟ وما هو الثمن؟ وأين أو لمن يجب تسديده؟
وقد يقول قائل إن في هذا الأمر الكثير من التجني والتزوير والتشويه، والكثير من التعتيم على الأهوال والغزوات والضغوط والمؤامرات التي تعرض لها هؤلاء من أعداء الداخل والخارج معاً، وهو تساؤل مبرر إلى حد كبير لكنه يسقط أو يتلاشى عندما نبدأ بسرد بعض الوقائع المكشوفة ومنها:
هل كان الرئيس أمين الجميل على حق عندما فشل في قيادة المسيحيين إلى شاطئ الأمان من خلال سياسات أو خيارات خاطئة في مكان أو غير حاسمة في آخر، وانصرف في المقابل إلى صراعات داخلية توخى من خلالها التفرد بالقرار المسيحي من خلال اللعب على التناقضات بين أهل البيت الواحد حيث وُجدت، أو بين الجيش والميليشيا حيث تظهرت، وتذويب القوات اللبنانية في حزب الكتائب أو تسليم أمرها لأفراد من عائلته أو المقربين منه حيث وُجدوا؟
هل كان على حق عندما ماطل في تأمين حكومة مدنية انتقالية تتولى سد الفراغ الرئاسي الحتمي بعد الفشل في انتخاب رئيس جديد للبلاد؟ وهل كان على حق في اختيار العماد ميشال عون تحديداً رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية وهو العالِم بمقدار الكره الذي يكنه الرجل للقوات اللبنانية وقائدها، والعالِم أيضاً بطموحات الرجل وعشقه للسلطة، إضافة إلى الدور السوري في تسميته قائداً للجيش خلفاً للعماد ابراهيم طنوس.
ألا نستطيع القول هنا إن العماد عون كان يجب أن يكون اليوم ضابطاً متقاعداً في منزله لا رئيسا للجمهورية، لو لجأ الرئيس الجميل إلى خيار آخر وتحديداً إلى خيار مقبول لا يتجاوز الدستور، ويعمل لتأمين انتخابات رئاسية بدل جر البلاد إلى صراعات على السلطة وحروب عبثية تحت أكثر من عنوان؟
ونعَّرج هنا على سمير جعجع، لنسرد ما يلي:
هل كان على حق عندما اختار الفوضى بدلاً من مخايل الضاهر؟ ألم يكن المضي بالضاهر، على الرغم مما قيل يومها عن ارتباطه بالنظام السوري، أفضل من الوصول إلى الفراغ الرئاسي وما تبعه من تطورات وويلات وسقطات؟
وهل كان الضاهر الرئيس، القابع في قصر بعبدا على مرمى القوات اللبنانية، ليجرؤ على أي اتفاق مشبوه مع النظام السوري أو تمريره على الأقل؟
وفي معنى آخر، هل كان يمكن أن يخرج إلى النور قبل ذلك “اتفاقٌ ثلاثي” أدمى المسيحيين، وبعد ذلك “اتفاق طائف” حجّم المسيحيين لو أجمع الجميل وعون وجعجع على “رئيس وسطي” قبل أن يدهمهم الوقت ويضعهم أمام خيارات لا يمكن الهروب منها؟
ونسأل مجدداً: هل كان العماد عون على حق عندما حاول إرضاء النظام السوري القلق من تمدد “البعث” العراقي في لبنان، من خلال توجيه قواته نحو مناطق القوات اللبنانية محولاً المنطقة الشرقية إلى مرابع ومناطق نفوذ هنا وهناك، ثم بعدها نحو المنطقة الغربية ليغرق في حرب “تحرير” استنفدت جيشه على مستوى العديد والعتاد؟ وهل كان على حق عندما رفض تأمين انتخاب رئيس للجمهورية تحت شعار “إما أكون رئيساً لها وإما لا تكون”؟ وهل كان على حق عندما أدت حروب الاستنزاف العبثي إلى قلب موازين القوى لمصلحة خصومه والوصول إلى اتفاق الطائف وتجريد الرئاسة الأولى من صلاحياتها الأساسية؟
وهل كان على حق عندما رفض التنحي لمصلحة الرئيس المخضرم رينيه معوض الآتي إلى السلطة بدعم عربي ودولي وتحفظ سوري مخنوق؟
وهل كان على حق عندما انقض على القوات اللبنانية مرة جديدة في محاولة لإسقاط إحدى عجلات اتفاق الطائف، الأمر الذي أدى إلى استنزاف القوة العسكرية المسيحية وحمل قياداتها السياسية على التسليم بالواقع الجديد، إما لاقتناعٍ قسري بأن ما جرى هو أفضل الممكن، وإما سعياً إلى توظيف الرضى المطلق والأعمى في معركة الرئاسة الأولى.
لن نخوض طويلاً في الكثير من الأسئلة والوقائع التي وضعت المسيحيين حيث هم اليوم.
لكننا نسأل هل تعلّم آمين الجميل من ملفات الماضي؟ هل تعلّم ميشال عون؟ هل تعلّم سمير جعجع؟
الجواب طبعاً لا…
الرئيس الجميل لا يزال على تباعده من القوات اللبنانية وعلى تمسكه بحكم العائلة وبحلم العودة إلى العصر الذهبي لحزب الكتائب… والرئيس عون لا يزال على تفرده وعشقه للسلطة وعلى استعداده لدفع أي ثمن يبقيه في دائرة الضوء، حتى لو تخلى عن قطعة من مساحة لبنان أو حتى لو احترق شعبه في جهنم أو حتى لو ذاب لبنان في محور معزول لا يشبهه، وحتى لو جاء من بعده الطوفان.
وسمير جعجع ليس أفضل حالاً، فهو أخطأ عندما مهد الطريق لخصم يعرف مسبقاً أن من غير الممكن التعاون معه من الند للند، ويعرف مدى خضوعه لنفوذ “حزب الله” ومحور الممانعة، وحجم العزلة التي يعانيها وحجم المآخذ التي تحيط به على المستويين العربي والدولي.
هل كان تقاسم النفوذ أكثر إلحاحاً من منع “حزب الله” من إيصال مرشحه الوحيد إلى قصر بعبدا؟ وهل كان الصراع على زعامة الشمال مع سليمان فرنجية سبباً كافياً للسير خلف عون مهما كان الثمن؟ وهل كان الخوف مما اعتبره جعجع “اغتيالاً سياسياً” أكثر أهمية من اغتيال لبنان وجودياً وكيانياً؟ وهل كان الخوف من الفراغ أكثر خطراً من سياسة “التفريغ” على كل المستويات؟
وأكثر من ذلك، هل كان السير بالقانون الانتخابي النسبي أمراً عاقلاً وحكيماً على رغم علمه المسبق انه سينزع الغالبية من قوى “الرابع عشر من آذار” لمصلحة قوى الممانعة؟
وأكثر من ذلك أيضاً هل يبدو عون والجميل وجعجع أفضل حالاً اليوم بعد سقوط “ثورة الأرز” نتيجة انضمام الأول إلى محور “حزب الله”، وسعي الثاني إلى خلق حيثية مستقلة، وإصرار الثالث على التحول قوة مسيحية تجعله الرقم الصعب في المعركة الرئاسية سواء كان مرشحاً أو ناخباً.
وأكثر من ذلك أيضاً وأيضاً، هل يبدو عون أفضل حالاً بعدما فقد وهجه القيادي وأكثر من نصف شعبيته في الشارع المسيحي، وهل يبدو رئيساً في بعبدا أقوى مما كان عليه زعيماً في الرابية؟ وهل يبدو جعجع أفضل حالاً بعدما فشل في استقطاب النصف الذي فقده عون، وفي المحافظة على الغطاء الإسلامي الذي تنعم به في الوسط السني شبه الشامل؟
لا شك أن الرجلين ليسا أفضل حالاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس أمين الجميل، لكن شيئاً واحداً لا يزال على حاله وهو “ظاهرة” عون التي خدعت الجميل الذي أطلقها ذات يوم، وخدعت جعجع الذي كرسها ذات يوم آخر.