كتب نديم قطيش…
بات انتظار ولادة حكومة لبنانية مجرد تنويع من تنويعات الأزمة. لا حكومة في الأفق على الأرجح، وإن شُكِّلت فلن تكون أكثر من إجراء شكليّ لا يقدّم ولا يؤخّر في أيّ تفصيل من تفاصيل الانهيار اللبناني المريع.
مع ذلك، يبقى لبنان بإزاء طبقة سياسية شديدة القوّة، على الرغم من كل ما يُقال عن تداعيها، وهو صحيح. لكنّها لا تزال تملك من أوراق القوّة ما يكفي لتعطيل ولادة بدائل تحدث قطيعة مع كل ما سبق وساد منذ عام 2011، تاريخ بدء الانهيار السوري، وما مهّد له من انهيار لبناني لاحق. والحال، لا شيء في الأفق يوحي أنّ ثمّة مخارج تقليدية من الأزمة، لا عبر حكومة جديدة ولا عبر انتخابات رئاسة جمهورية مبكرة أو في موعدها..
تبرز في ظلّ هذا الانسداد رافعتان يمكن الرهان عليهما لبناء تصوّر لمرحلة انتقالية، أولى سماتها تجاوز الصفات التمثيلية لكل القوى السياسية اللبنانية: الكنيسة المارونية والجيش.
خلافاً لكلّ مؤسّسات النظام يبدو الجيش اللبناني الأقلّ إصابة. البرلمان فشل في لعب دوره على أكثر من مستوى بالرغم من كثرة محاولاته، وبدا غائباً عن الفعل السياسي في الأزمة الحكومية. والحكومة كيان ممزّق، أمعنت القوى السياسية، على اختلاف مشاربها، في إضعافها وبهدلة رئاستها. ورئاسة الجمهورية أسيرة معارك ما قبل الرئاسة، التي حوّلت بعبدا إلى مجرّد دشمة جديدة في حروب أبدية.. وأمّا القضاء فصورته المنهارة تختصرها صورة القاضية غادة عون، ومصير التشكيلات القضائية، واستتباع كلّ الأركان المؤسساتية التي تشكّل قوام هذا الصرح وبنيته.
وحده الجيش ما زال يمتلك رصيداً عند الناس، بسبب من سمعة قائده وأدائه المؤسّساتي والوطني، ونجاته بحدٍّ أدنى من الإصابات خلال فترة “ثورة 17 تشرين”. والجيش، مع انهيار العملة، بات شريكاً للمواطن في أزمته الحياتية والمعيشية، من موقع مثيل، غير متّهم بالاستحواذ على مقدّرات وثروات وسمسرات وصفقات أو اقتصاد بديل، كما هو واقع أركان الطبقة السياسية.
بيد أنّ الخطورة تكمن في أنّ الجيش هو مرآة عاكسة لتنوّع المجتمع اللبناني بكل عناصر قوّته وضعفه، ويستبطن كلّ أمراض هذا المجتمع، ولا سيّما مرض الولاء المذهبي، وهو ما يعني أنّ أيّ تحدٍّ حقيقي لبنية النظام يتصدّره الجيش، خارج توافق حقيقي، سيقود حتماً إلى انقسامات وانشقاقات، تتعدّد بتعدّد مواقف المذاهب والطوائف من هذا التطوّر.
وتزيد احتماليّة هذا المآل في ضوء ضعف قدرة المؤسّسة على تلبية حاجات ضبّاطها وجنودها، وفي غياب أيّ برنامج دوليّ رعائيّ لدعم الجيش، وتثبيت مصالح أفراده داخل الدولة، وسدّ الثغرات التي من خلالها يمكن التسلّل بأموال ومقدّرات تهدف إلى تطويع الجيش أو تذويبه خدمة لمشاريع خاصة لا علاقة لها بمصالح لبنان.
أمّا الكنيسة المارونية، فقد وضعت باكراً إصبعها على الجرح، الذي من دون علاجه لا فائدة من معالجة الجراح الأخرى. لقد طرح البطريرك أزمة سلاح حزب الله، كأمّ الأزمات التي تضرب لبنان. ووضع للمعالجة خارطة طريق موضوعيّة تبدأ بإعلان حياد لبنان وبتنظيم مؤتمر دولي يحمي الحياد وينفذ منه نحو خطّة إنقاذ اقتصادية ومالية واجتماعية.
مشكلة الطرح الكنسيّ أنّه لم يتحوّل إلى ورقة عمل سياسي، وبرنامج تعبئة وطنية، ومادة جذب وتأطير للقوى السياسية والشعبية، وعنوان يتبنّاه المجتمع الدولي مدخلاً لحلّ الأزمة اللبنانية.
فضلاً عن أنّ البطريرك نفسه يتمهّل في برمجة طرحه لصالح الدخول في “زواريب” تشكيل حكومة رغم علمه أنّ قرار هذا “الإنجاز” خارج لبنان من واشنطن إلى طهران مروراً بفيينا.
في هذا السياق، تحالفت السذاجة الفرنسية المستعجلة لإنتاج حكومة، حتّى لو أتت حزبية مقنّعة، تحالفت مع توحّش الطبقة السياسية اللبنانية، وإلاهمال العربي، لإبقاء كلام البطريرك كلاماً نظريّاً جميلاً وعنواناً نخبويّاً، لا أكثر ولا أقلّ.
حتّى الآن لا دعم فوق العادة للجيش اللبناني، ولا تسييس فوق العادة لموقف الكنيسة، والنتيجة تبديد آخر منبتيْن جدّيّين لشرعية انتقالية تعيد تكوين السلطة في لبنان، وتعيد ترتيب أولويّات العمل الوطني، وتبدأ مسيرة وقف الانهيار.
أخشى ما أخشاه أن يكون الحديث عن الجيش والكنيسة في الأشهر القليلة المقبلة حديثَ ذكريات مريرة عن فرصة، هشّة، ضاعت على الرغم من أنّها كانت ممكنة.