كتب علي نور…
من حيث المبدأ، وكما هو الحال في جميع الدول التي شهدت أزمات مماثلة، كان من المفترض أن يضع مشروع قانون الكابيتال كونترول خارطة طريق كاملة لإجراءات ضبط السيولة، تكفل رفع هذه الإجراءات تدريجيّاً وفق سقف زمنيّ واضح، وتضمن للمودع عودة الانتظام إلى عمل القطاع المالي واستعادة ودائعه من بعد، على أن يكون ذلك جزءاً من خطة أوسع للخروج من الانهيار الماليّ. وكان من المفترض أن يقدّم مشروع القانون هذا ضمانات للمودع، تكفل حدّاً أدنى من الحقوق من ناحية سقوف السحب وسعر الصرف المعمول به للسحوبات من الحسابات بالعملات الأجنبيّة. لكنّ آخر مسوّدات مشروع القانون المطروحة حاليّاً لم تقدّم أيّاً من هذه الضمانات، فيما بدا واضحاً أنّ الغاية النهائيّة منه لم تكن سوى تشريع الوضع الراهن وتكريسه، وتقديم للمقرِضين الدوليّين، كصندوق النقد في المستقبل، ضمانة تكفل عدم خروج أموالهم من النظام المصرفيّ.
من ناحية سعر الصرف المعمول به للسحب من حسابات العملات الأجنبيّة بالليرة اللبنانيّة، ترك مشروع القانون المسألة مفتوحة بيد مصرف لبنان، ليحدّد هذا السعر وفقاً لمعادلة خاصّة “تأخذ بعين الاعتبار أسعار السوق الرائجة التي تكون قد حدّدتها المنصّة للتبادل الحرّ الواجب إنشاؤها لهذا الغرض من قبل مصرف لبنان”. وبمعنى آخر، لن ينصّ القانون على أيّ نسبةٍ أو حدٍّ أدنى يمكن اعتماده، لضمان تقليص حجم الخسارة التي سيتحمّلها المودع، والناتجة عن الفارق بين سعر الصرف المعمول به للسحوبات وسعر صرف الدولار الفعليّ. مع العلم أنّ مبدأ قانون الكابيتال كونترول كان يقضي بوضع قيود معيّنة على مصرف لبنان تضمن الحدّ من خسارة المودع نتيجة هذا الوضع الاستثنائي، بدل أن تُترك المسألة كليّاً بيد المصرف المركزي، كما هو الحال أساساً اليوم قبل إقرار القانون.
في ما يتعلّق بسقف السحوبات، حدّد مشروع القانون هذا السقف بـ20 مليون ليرة لبنانيّة، تشمل السحوبات بالليرة من الحسابات المقوّمة بالعملة المحليّة والعملات الأجنبيّة معاً. لكنّ مشروع القانون، وخلافاً للمطلوب منه، لم يكفل الحفاظ على أيّ سقف ليكون حدّاً أدنى للسحوبات، بل ترك للمجلس المركزي لمصرف لبنان صلاحيّة تعديل السقف “كلّما دعت الحاجة”، في ضوء المادة الـ69 من قانون النقد والتسليف. وللعلم فإنّ هذه المادة تنصّ على ضوابط مفروضة على المصرف المركزيّ لجهة أن تعادل قيمة النقد المصدّر من قبله نسبةً من قيمة الموجودات بالعملة الصعبة والذهب التي في حوزة المصرف.
وفي ما يتعلّق بسقف السحوبات، تشير مصادر مصرفيّة إلى أنّ السقف المنصوص عليه في القانون يُعدّ سقفاً خياليّاً لا يمكن الالتزام به أساساً، لا من قبل المصارف ولا من قبل مصرف لبنان. لذا من الأكيد أنّ سقف السحوبات الفعليّ سيعتمد لاحقاً على ما سيحدّده المجلس المركزي لمصرف لبنان، وفقاً للصلاحيّة التي منحه إيّاها القانون. فالمصارف تضع حالياً سقوف سحب أقلّ بكثير من تلك المنصوص عليها في مسوّدة مشروع القانون، بسبب تقنين المصرف المركزي لقيمة السيولة التي يسلّمها للمصارف، من دون أن يتمكّن مصرف لبنان من لجم التضخّم الحاصل في الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة. وإذا رُفِع سقف السحوبات إلى 20 مليون ليرة، كما ينصّ القانون، فستكون النتيجة تضخّماً مفرطاً لا يقوى أحد على تحمّله. يُضاف إلى ذلك أنّ مصرف لبنان فَقَد أساساً القدرة على التوسّع في خلق النقد، وفقاً لمندرجات المادة الـ69 من قانون النقد والتسليف.
لهذا السبب، بدا واضحاً أنّ مشروع القانون حدّد سقفاً غير عمليّ للسحوبات، ولا يمكن تطبيقه فعليّاً، فيما سيكون المخرج لاحقاً إعادة تحديد السقف من قبل المجلس المركزي لمصرف لبنان، من دون أن تكون أيّ قيود فعليّة على المصرف المركزي تكفل الحفاظ على حدٍّ أدنى من السحوبات للمودع.
مسوّدة مشروع القانون نصّت على حالات استثنائيّة تسمح بإجراء التحويلات إلى الخارج، بسقف لا يتخطّى 50 ألف دولار أميركي لكلّ حساب مصرفي. وقد شملت الحالات الاستثنائيّة سداد القروض السكنيّة والالتزامات الضريبيّة في الخارج، بالإضافة إلى تسديد نفقات التعليم وكلفة الاشتراكات والتطبيقات عبر الإنترنت. لكنّ المسوّدة لم تحدّد مصدر تمويل هذه التحويلات بالنسبة إلى المصارف، التي تؤكّد أنّ مستوى موجوداتها لدى المصارف المراسلة لم يعد يسمح بتمويل أيّ تحويلات استثنائيّة، في حين أنّ المصرف المركزي يصرّ على عدم جواز التصرّف بالاحتياط الإلزامي الموجود لديه. وبغياب الوضوح في طريقة تمويل التحويلات، من الأكيد أنّ هذا البند من القانون قد يتحوّل إلى مسألة غير قابلة للتطبيق، تماماً كحالة قانون الدولار الطلابي الذي أُقِرّ من دون أن ينفّذ من قبل الغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانيّة.
تكمن أهمّ ثغرة في مشروع القانون في كونه لا يطرح أيّ تدرّج في الإجراءات يكفل الخروج من حالة الضوابط الاستثنائيّة على السيولة، كما يُفترض أن يكون الحال في أيّ قانون من هذا النوع. وبذلك تصبح غاية القانون الأولى والأخيرة هي تشريع الحالة الاستثنائيّة، وتكريسها على المدى الطويل وضعاً طبيعيّاً، بدل أن تكون غايته الخروج من الأزمة باتجاه وضع طبيعي يستعيد فيه أصحاب الودائع حقوقهم. ولعلّ هذه الثغرة تعود أساساً إلى كون القانون لم يكن جزءاً من خطة أوسع تضمن معالجة الخسائر المصرفيّة أوّلاً، وعودة الملاءة والسيولة إلى النظام المالي ثانياً، ولا جزءاً من نظرة شاملة تحدّد آليات لتوحيد أسعار الصرف المتعدّدة وتعيد الانتظام إلى سوق القطع.
باختصار، وباستثناء توحيد سقوف السحب بين الحسابات، ومن دون ضمانة للحدّ الأدنى لهذه السقوف، لا يوجد أيّ جديد يمكن أن ينتظره أصحاب الحسابات المصرفيّة من هذا القانون، الذي كان يُفترض أن يبصر النور منذ أكثر من سنة وخمسة أشهر.