حسين ايوب
تشهد عواصم إقليمية ودولية حراكاً غير مسبوق. دينامية ولّدتها لحظة وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. البدايات تشي بتحولات ما، ولكن العبرة تتصل دائماً بالنهايات، وهي محكومة بترتيبات متصلة بالنظام الدولي الجديد وأين سيختار اللاعبون الإقليميون التموضع في المرحلة المقبلة. لنحاول أولاً رصد الصورة الكبيرة
ـ أولاً، الولايات المتحدة مُصممة إستراتيجياً على العودة إلى الإتفاق النووي، وبالتالي رفع الجزء الأكبر من العقوبات عن إيران. المسألة تحتاج إلى أشهر وليس إلى أسابيع. هذا ما تكون لدى الوفود الإسرائيلية التي زارت واشنطن، الأسبوع الماضي، وبينها رئيس “الموساد” يوسي كوهين الذي إجتمع ببايدن في البيت الأبيض، في لقاء عكس، بشكله ومضمونه ونتيجته، أفق محادثات فيينا، وبالتالي إنتقال تل أبيب إلى مقلب البحث عن “بوليصة تأمين” أميركية مقابل العودة الأميركية إلى الإتفاق النووي، حسب الصحافة الإسرائيلية.
ثانياً، بتكليف أميركي ـ إيراني، جرى إعتماد مصطفى الكاظمي، رئيس حكومة العراق، بوصفه من أبرز حلقات هذه المرحلة الإنتقالية إقليمياً. مفاوضات سعودية ـ إماراتية مع الإيرانيين في بغداد، إنطلقت في شباط/ فبراير الماضي، وإقتصرت في الشهر الماضي على وفدين سعودي وإيراني، ومن المرجح أن تنعقد في نسختها الثالثة في بغداد، قبل نهاية الشهر الحالي، إلا إذا حصل خرق سعودي بإتجاه طهران أو خرق إيراني بإتجاه الرياض.
في الوقت نفسه، عُلم أن الكاظمي نجح في الأسابيع الأخيرة بإستضافة إجتماعات مصرية ـ تركية، بلغ النقاش خلالها مرحلة متقدمة، ولم تكن تصريحات السياسيين في كل من أنقرة والقاهرة، وزيارة الوفد التركي اليوم (الإثنين) إلى العاصمة المصرية، إلا الصدى المباشر لإجتماعات بغداد.
ومن المفترض أن يتوّج الكاظمي دوره الوسطي بجولة خارجية تأتي إستكمالاً لجولته الأخيرة، على أن يجري التفاهم مع كل من الأردن ومصر على تحديد موعد جديد للقمة المشرقية العربية الثلاثية في موعد أقصاه الصيف المقبل.
ثالثاً، قرر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إعادة التموضع ربطاً بقرار واشنطن العودة إلى الإتفاق النووي. من يقارن بين خطاب بن سلمان في العام 2017 الذي تعهد فيه بنقل المعركة إلى داخل إيران، مشيرا إلى عدم وجود نقاط إلتقاء بين البلدين، وبين خطابه الأخير الذي وصف فيه إيران بالدولة الجارة التي نطمح إلى علاقة طيبة ومميزة معها، متحدثاً عن تقاطع مصالح بين الدولتين، يستنتج أننا أمام “إنقلاب نظري” يستمد مشروعيته من وجعين سعوديين أساسيين: الأول، سبع سنوات من الغرق في مستنقع اليمن، وها هو بايدن يتساهل مع الحوثيين، برغم إلتزامه بالدفاع عن أمن المملكة. الثاني، فشل الرهان على إسقاط النظام الإيراني بالعقوبات و”الضغط الأقصى”، وبشراكة كاملة مع إسرائيل من خلال مشروع التطبيع.
رابعاً، أظهر التسريب الصوتي لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أن الرجل ذهب ضحية تسريب إستخباراتي محكم. عملياً، إنتهت الإنتخابات الإيرانية قبل أن تبدأ، على الأرجح، سيكون للمرة الأولى رئيس إيران المقبل ليس فقط من فريق المتشددين، بل من ذوي البدلات المرقطة (الحرس الثوري)، كأحد أبرز الإحتمالات. إيران تشهد صراعاً داخلياً حول خياراتها الجيوسياسية. هل تكون أقرب إلى الصين أم أميركا؟ هذه الهضبة الأسيوية الإستراتيجية ـ المرتكز (على حد تعبير محمد حسنين هيكل) لم يعد بمقدورها أن “تتدلل”، كما هي عادتها تاريخياً. كان هيكل يميّز بين الدولة ـ المرتكز (إيران والهند وتركيا نموذجاً) والدولة ـ الحضور (باكستان والسعودية ومصر نموذجاً). لذلك، كان متيقناً بحتمية الإتفاق النووي، قبيل رحيله، ربطاً بالحضور الإيراني المترامي الأطراف من شرق آسيا إلى غربها (البحر المتوسط والبحر الأحمر وباب المندب).
• في ظل هذه المناخات الدولية والإقليمية، هل يسهل أم يصعب الفوز بحكومة لبنانية؟
الأكيد أن إجتماعات بغداد الخليجية ـ الإيرانية لم تناقش أبداً الملف اللبناني. السعوديون لا يريدون أن يسمعوا بلبنان. أما سعد الحريري، فهو عنوان إستفزاز كبير لهم. قال محمد بن سلمان أمام الكاظمي كلاماً كبيراً بحق رئيس تيار المستقبل. كان بديهياً ألا يتجاوب رئيس وزراء العراق مع محاولة الحريري ترتيب زيارة رسمية إلى العاصمة العراقية.
الأمر المستجد ـ وهو يحتاج إلى تدعيم وتأكيد ـ أن الإمارات المفوضة بالتعامل مع الحريري بشراكة كاملة مع المصريين، تتعامل في الآونة الأخيرة ببرودة مع رئيس الوزراء اللبناني المكلف. وحدهم المصريون لم يبدلوا تبديلاً في تعاملهم مع الحريري. ينسقون مواقفهم اللبنانية مع العاصمة الفرنسية، لكن ثمة إشارة لافتة للإنتباه إستنتجها دبلوماسيون فرنسيون في بيروت مفادها أن القاهرة تشوّش على دورهم بعنوان “ضعف الخبرة والكفاءة الفرنسية”. كان الحريري مستعداً لتقديم تنازلات، من وجهة نظر الفرنسيين، وبينها الموافقة على أن يجتمع برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في العاصمة الفرنسية، لكن المصريين إلتفوا على المبادرة ونجحوا في إجهاضها، بالتنسيق مع الأميركيين، و”هذا الأمر لن يغفره الفرنسيون للحريري”. أيضاً لا تملك باريس تفسيراً لعدم حماسة القاهرة لتأليف حكومة لبنانية جديدة!
هنا، تتقاطع معلومات ديبلوماسية عند وجود تنسيق روسي فرنسي في كل ما يخص الملف اللبناني. الدليل أنه قبيل وصول جبران باسيل إلى موسكو، كان الموفد الرئاسي الروسي ميخائيل بوغدانوف يزور العاصمة الفرنسية، ويلتقي هناك وزير الخارجية جان إيف لودريان والمعنيين بالملف اللبناني. إستطاع الروس تفهم بعض مواقف باسيل اللبنانية أكثر من اي وقت مضى، لكن نقطتين حاسمتين لم يتزحزحا قيد أنملة عنهما: التمسك بسعد الحريري ورفض الثلث المعطل. المفارقة اللافتة للإنتباه أن لودريان طلب حتى الآن موعدين رسميين في بيروت من كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري. هناك وجهتا نظر، أولى تقول بحتمية إجتماعه بالحريري، في ضوء إستكمال برنامج الزيارة؛ وثانية تقول بأن الوزير الفرنسي لن يلتقي الحريري. وبين هذا وذاك، ليس مستبعداً، بالتنسيق الكامل مع الروس والأميركيين، أن يبادر الوزير الفرنسي إلى جمع الحريري وباسيل، برغم نفي أوساط الحريري وباسيل أن تكون هذه الفكرة مطروحة حتى الآن.. أما إذا لم يحصل الإجتماع بين لودريان والحريري، فإن دلالاته لن تكون بسيطة أبداً.
بكل الأحوال، لم يعد باسيل من موسكو رافعاً علامات النصر. الرجل يبدو مهتماً بالزيارات الخارجية وأيضا بإستقبال ضيوف خارجيين ربطا بكسر العقوبات الأميركية المفروضة عليه، لكنه لم يغادر حتى الآن مربع السعي إلى جعل الحريري يعتذر عن المهمة الحكومية، حاله كحال ميشال عون الذي ما بدّل تبديلاً في هذه النقطة أيضاً. الإثنان يحمّلان “الثنائي الشيعي” (أمل وحزب الله) مسؤولية التكليف، ويعتبران أن الحريري لن يعتذر إلا إذا حصل سابع من أيار سياسي جديد في لبنان!
ووفق آخر النقاشات، هناك من ينبري للقول إن عون مستعد لتوقيع اية تشكيلة يقدمها الرئيس المكلف إليه، على أن تسقط في المجلس النيابي ويتولى من بعدها تصريف الأعمال وبالتالي مواجهة تداعيات الشارع، إلا إذا قرر الحريري الإعتذار عن التكليف، بفعل إحباطه من تطورات الداخل والإقليم، وبالتالي إنزعاجه الشديد من التضييق الذي يتعرض له، ومصدره في الكثير من الأحيان “إما محمد بن سلمان أو جبران بن باسيل”!
يأخذ كثيرون على الحريري وباسيل أنه منذ اللحظة الأولى للتكليف كان عليهما ألا يُفوّتا فرصة التأليف وألا يضعا كل أوراقهما رهن وصول إدارة أميركية جديدة. كلُ واحدٍ منهما كانت له حساباته ورهاناته المضادة للآخر.
-هل الإتفاق الأميركي ـ الإيراني سيصب في مصلحة باسيل أم الحريري؟
-هل تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية سيكون على حساب الحريري أم باسيل؟
-هل عودة الخليجيين إلى سوريا وإحتمال إعادة تلزيم لبنان مُجدداً للقيادة السورية، سيكون لمصلحة الحريري أم باسيل؟
-هل التوصل إلى إتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل برعاية الأميركيين سيكون لمصلحة هذا أم ذاك؟
-هل فوز رئيس متشدد في إيران هو فوز للتيار الحر أم لتيار المستقبل؟
-هل سقوط مأرب اليمنية لمصلحة الحريري أم باسيل؟
في مستهل أحد لقاءات الرئيسين الراحلين الياس الهراوي وحافظ الأسد في دمشق في تسعينيات القرن الماضي، خاطب الاسد الهراوي قائلاً له “شو أخبارك يا فخامة الرئيس”، فانتفض الهراوي وقال بلهجته الزحلاوية: “شو عملتلك؟ ليش عم تحكيني هيك”؟ فأجابه الأسد مُستغرباً: وماذا قلت لك؟ رد الهراوي: “دايماً كنت تخاطبني أبو جورج.. وهلق استخدمت فخامة الرئيس. شكلك زعلان مني”.
• ما هي الصلة بين رواية الهراوي وبين يومنا هذا؟
يقول مرجع لبناني واسع الإطلاع، “إذا كان خبر زيارة وفد أمني سعودي إلى دمشق في الساعات الأخيرة صحيحاً، وإذا إكتمل التطبيع الخليجي بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، على اللبنانيين أن يستعدوا لمرحلة جديدة من التخاطب مع دمشق. عندها على الكثيرين أن يستعينوا بقاموس الهراوي لأنهم لن يجدوا قاموساً أكثر فائدة منه للتزلف لدمشق، وهذه عادة معظم أهل السياسة في لبنان، من دون إستثناء”.. للبحث صلة!.