أمينة خيري
كوفيد-19 دفع الجميع إلى خوض تحولات جذرية والتعايش مع قدر غير مسبوق من عدم اليقين
فضل وباء كورونا في إجراء تعديلات على نوعية الحياة في زمن ما بعد اللقاح أصبح واضحاً (غيتي)
توجه جديد يخطط إلى التغيير، وربما إلى قلب قواعد الحياة رأساً على عقب، يجتاح كثيراً من الأشخاص حول العالم. إنها حمى الرغبة والنية في التغيير عقب التلقيح، إنها الحياة بمقاييسها الجديدة وانكشافاتها الحديثة بعد الخضوع للجرعة الثانية من اللقاح المضاد لكوفيد-19، أو عقب تلقي جرعته الوحيدة في حال كان لقاح “جونسون أند جونسون”.
عام وبضعة أشهر من إحكام الوباء قبضته على رقاب ومصائر وحاضر ومستقبل ملايين البشر أسفرت عن تغيرات عديدة في النفوس والعقول والقلوب. ولأن الغالبية كانت غارقة في مواجهة أو التأقلم أو التفاعل أو التدريب على تجاهل الحياة في كنف الوباء، فإن تلقي الملايين اللقاح، سواء جرعته الأولى أو الثانية، وانتظار الملايين نصيبهم ودورهم، يحوّلان دفة الإنسانية تجاه التخطيط للحياة بعد اللقاح.
الحنين حزمة بلا انتقاء
وحتى أشهر قليلة مضت، كان الحديث الأبرز يدور حول الحنين للعودة لما كانت عليه الحياة قبل الوباء. الحنين كان حزمة بلا انتقاء. الاشتياق كان لمر الحياة وحلوها قبل العزل والحجر والاحتراز والكمامة والإصابة وفقدان الأحباب، لكن جد في الحنين الجديد، حيث فتح ملف المؤجلات وطرق باب الأحلام وترك وهم التسويف.
“سأستقيل من وظيفتي الحالية. وسأستثمر جانباً من مدخراتي في القيام بجولة في أميركا الجنوبية. وحين أعود سأنمي هواية البستنة التي أعشقها، وربما سأتخذها عملاً يدر عليّ قدراً كبيراً من البهجة وقليلاً من المال”، هكذا لخصت نرمين فهيم (55 عاماً) حياتها على مدار السنوات الـ15 الماضية. فهي تعمل في وظيفة مرموقة في شركة كبرى في الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات طويلة. تفوقها وتميزها تحولا من نعمة إلى نقمة. فقد بدأت تشعر بأنها لم تستمتع بحياتها بسبب ضغوط العمل وساعاته الطويلة جداً، بالإضافة إلى طبيعتها المائلة إلى التفاني لدرجة مفرطة فيما تقوم به. عملت سنوات من دون عطلة نهاية أسبوع. سافرت إلى عشرات الدول في رحلات عمل من دون أن تبرح غرف الاجتماعات. تقول: “15 عاماً كاملة وأنا أعاهد نفسي في نهاية كل عام أن أستقيل وأعيش. 15 عاماً وأنا أخفق في تنفيذ ما عزمت عليه. هذا العام، ما إن تلقيت تاريخ حصولي على الجرعة الثانية من اللقاح حتى كتبت رسالة الاستقالة وأرسلتها للإدارة بالبريد الإلكتروني معنونة “مخطط الاختفاء”.
مخطط الاختفاء
مخطط الاختفاء لم يعد سراً أو حكراً على أحد. تقول نرمين فهيم إنها تلقت رداً رسمياً من مديرها يخبرها فيه أن الشركة تأسف جداً لقرارها، وإنها لو أرادت أن ترجع عنه فمكانها محفوظ. ثم تلقت رسالة أخرى منه، ولكن من بريده الشخصي يخبرها فيها أنه اتخذ القرار نفسه، وأنه أخبر الإدارة بأنه سيرحل في سبتمبر (أيلول) المقبل عقب إنجاز المشروع المكلف إياه. وحدثها عن عودته وزوجته إلى بلدتهما الصغيرة، حيث بيته الريفي وكلابه وخيوله والطيور التي يهوى مشاهدتها، ولم يتمكن من الاستمتاع بها بسبب العمل، وعرف قيمتها وقيمة ما يفتقده بفضل الوباء.
فضل الوباء في إدارة مخططات الاختفاء أو تعديلات نوعية الحياة في زمن ما بعد اللقاح أصبح واضحاً. كثيرون يتحدثون عن قرارات نهاية العام التي يتخذونها على مدار عقود، لكنها تتبدد قبل انقضاء الشهر الأول من العام الجديد. يقولون إن هذه القرارات حان تطبيقها بعد أن أصبح الكوكب مهيّأً لاستقبال قرارات جذرية غير تقليدية.
عام جديد… أنا جديد
المتخصصة النفسية فريدة الغندور تقول، إن كثيرين يعتنقون مذهب “عام جديد… أنا جديد”، وأن نهاية العام الميلادي غالباً تكون المحرك الكلاسيكي لهذا التوجه، إذ تكون فرصة للتفكير في أحداث عام مضى وتدبير مجريات عام قادم. وتضيف أن “التغيير يخيف الكثيرين ويشعرهم بعدم الارتياح. فهو ضد الطبيعة ويجعل الشخص يشعر بمشاعر غريبة وغير مريحة ما يجعله ينتظر مناسبة مثل نهاية العام أو عيد ميلاده ليتخذ قرار التغيير الذي يخشاه الجميع”.
وتشير الغندور إلى أنه في الأوقات الصعبة يلجأ البعض إلى اتخاذ قرارات تجعلهم يشعرون بأنهم ما زالوا مسيطرين على مصائرهم. وهذا ينطبق على الوباء الذي جعل الغالبية تشعر أنها فقدت السيطرة على حياتها بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة.
ذهول ثم صدمة… فتغيير
يقول المحاسب أيمن باهر (54 عاماً) إن الوباء في البداية أصابه بذهول وكأنه لا يصدق ما يحدث له ولأسرته ولأصدقائه والبشرية جمعاء. وبعد الذهول جاءت الصدمة ومعها الرعب حين بدأ الفيروس يضرب دائرة الأصدقاء والأهل، ومنهم من مات بسبب إصابته. يقول: “هنا قررت أنه في حال نجوت بنفسي، فسأفعل ما كنت أحلم به دائماً ألا وهو تغيير مهنتي تماماً. فأنا أعمل في مجال المصارف منذ أن تخرجت في الجامعة، لكن شغفي الشديد هو الصيد. لذلك، بدأت مشروعاً صغيراً لبيع أدوات الصيد، وأخطط حالياً لبدء دورات تدريب لهواة الصيد، وما إن يحين دوري لتلقي اللقاح سأترك وظيفتي وأفتتح مركزاً متخصصاً في تنظيم رحلات الصيد. يجب أن أفعل شيئاً أحبه قبل أن أموت”.
التغيير والموت
ربط قرارات التغيير بفكرة الموت التي باتت تلح على كثيرين في زمن الوباء يبدو أمراً متوقعاً. ويبدو أن خطر الموت أصبح مكوناً أساسياً في أفكار الكثيرين بسبب الوباء، ولو حتى في العقل الباطن. وعلى الرغم من صعوبة التخطيط في ظروف يعلم الجميع أن الغد في علم الغيب، وبعد الغد قد لا يكون موجوداً، فإن أحد الأسلحة الدفاعية للبشر يكون في التخطيط الشديد والقرارات الجذرية، وربما المتطرفة.
تقول الغندور، إن كوفيد-19 دفع الجميع إلى خوض تغيرات جذرية والتعايش مع قدر غير مسبوق من عدم اليقين. وهنا يعمد البعض إلى اتخاذ قرار يشعرهم بأنهم ما زالوا مسيطرين ولو على قدر من مقاليد أمورهم. وتضيف أن “مشاعر فقدان الأمل والحزن واليأس تجعل البعض يتغلب على مخاوفه من اللقاح وآثاره ويتخذه محطة مصيرية ينتظرها بفارغ الصبر، إما لتعيد له حياته السابقة، أو لتحقق له حلم التغيير المؤجل.
المؤجلات آفة الملايين
المؤجلات آفة الملايين تجد نفسها هذه الأيام قيد إعادة الإطلاق، وربما التفعيل، حيث تشير الغندور إلى أن ما نشهده حالياً من تواتر قرارات التغيير الجذرية وربطها بتلقي اللقاح ربما يحمل قدراً من الاندفاع، فهناك من يتخذ قرارات متسرعة وهوجاء استجابة لاندفاع مشاعر غضب أو غيظ أو توتر أو تقصير مثلاً. وهي تلفت الانتباه إلى أن الوباء تسبب في تفجير العديد من المشاعر المتناقضة لدى البشر، سواء كانت غضباً أو حزناً أو يأساً، أو حتى أملاً، ولكن جميعها مركزة ومكثفة بسبب حجم الأزمة وخطورتها.
تقول: “يكفي أن الملايين من البشر شعروا – وما زالوا يشعرون – أن الحياة توشك على الانتهاء. وهذا يعني أن هناك من القرارات التي اتخذها البعض أثناء الوباء، وربما ما سيتم اتخاذه بعد الخضوع للقاح، يمكن وصفها بالمتسرعة أو المندفعة، أو التي تم اتخاذها كرد فعل غاضب أو متعجل”.
التسويف هو الشيطان
لكن هناك من يجزم بأنه إذا كانت العجلة من الشيطان، فإن الإرجاء من دون داعٍ والتسويف بلا طائل هما الشيطان نفسه. سيدة طلبت الطلاق من زوجها في منتصف عام الوباء شرحت في حيثيات القرار الذي بدا فُجائياً للزوج وأهله وأهلها أن “صفعة” الوباء جعلتها تدرك أن العمر مهما طال قصير، وأن تأجيل الاستمتاع بالحياة أو على الأقل تجنب ضغوطها ومصادر التوتر فيها هزل.
جدية التأمل
هزل التأجيل يقابله جدية التأمل في زمن الوباء أيضاً. توافر الوقت والجهد مع صدمة الخطر الكبير الفجائي والآني وأبعاده المجهولة عوامل جعلت التأمل والتفكير من أركان هذا الزمن. هذا التأمل في الحياة يؤدي إلى تقييم للأفعال والقرارات، وهو ما ينجم عنه تقويم وتعديل. في الولايات المتحدة الأميركية – حيث تتوافر استقصاءات واستقراءات الرأي والتوجهات – شهدت الارتباطات العاطفية من خطوبة وزاوج زيادة ملحوظة في زمن الوباء، وهو ما يفسر الزيادة في نسبة الإقبال على شراء الخواتم الذهب والماس.
كما وجد استطلاع للرأي أجراه “مركز بيو للأبحاث” أن نحو 22 في المئة من الأميركيين إما انتقلوا من بيت إلى آخر، أو يعرفون شخصاً واحداً على الأقل نقل محل إقامته في زمن الوباء، وذلك حتى يونيو (حزيران) الماضي. ويرجح البعض أن جانباً من هذه الظاهرة يعود إلى تغير قيمة ومعنى البقاء في البيت، بالتالي تسليط الضوء على الاحتياجات التي تجعل هذه الإقامة أكثر راحة أو متعة أو إفادة.
علم النفس
فائدة العودة إلى علم النفس لفهم ما يجول في النفوس في أوقات الأزمات والكوارث كبيرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن القائمين على علم النفس أنفسهم تفاجأوا بأزمة الوباء غير المسبوقة وما أسفرت عنه من مشكلات وضغوط لم تكن على البال. وتقول الغندور: “الأزمة الحالية غير مسبوقة لدرجة أن العاملين في مجال الصحة النفسية تفاجأوا بها وبآثارها. لم نتلقَ التجهيز الكافي أو التدريب المناسب لنتعامل مع الأشخاص المتضررين والمتأثرين نفسياً بها. استغرق الأمر بضعة أسابيع، وربما بضعة أشهر قبل أن ندرك حجم الوباء النفسي الناجم عن الفيروس. وعلى الرغم من أن أغلب ردود فعل البشر من قرارات جذرية وصادمة هي في الواقع متوقعة لأن ما يمر به الجميع كارثة، وهكذا يتصرف الناس في زمن الكوارث، فإن هذا النوع من الكوارث جديد وفريد، وكذلك نوعية ردود فعله ومحتوى قرارته، وأغلبها مرتبطة بلقاحه”.