أحمد عبد الحكيم
عقود الحرب ضد الاحتلال والتدخل الأجنبي انتهت بدخول الشماليين عاصمة الجنوب عام 1975 والجيش الأميركي مني بهزيمة هي الأبرز في العصر الحديث
من بين أحداث العالم الكبرى خلال القرن الماضي، لا تزال قصة توحيد فيتنام بتشابكاتها العالمية والإقليمية، التي تمت في 30 أبريل (نيسان) قبل 46 عاماً، إحدى أبرز محطات الحروب في النصف الثاني من القرن الـ20، وأطولها عمراً بالنسبة إلى القوات الأميركية التي أجبرت في نهاية المطاف على ترك تلك البلاد الواقعة في جنوب شرقي آسيا على الطرف الشرقي من شبه جزيرة الهند الصينية، على الرغم من حشودها العسكرية الضخمة القادمة لصد التوغل الشيوعي في آسيا.
وعلى مدار نحو عقدين من الزمان (ما بين عامي 1954 و1975)، لم تقتصر الحرب الفيتنامية، بخسائرها التي تجاوزت مليوني قتيل وأكثر من ثلاثة ملايين جريح، وفق التقديرات الرسمية الفيتنامية والأميركية، على دخول الجيش الشعبي الفيتنامي مدينة سايغون عاصمة فيتنام الجنوبية، بل بقيت آثارها قابعة في التاريخين العسكري الآسيوي والأميركي على حد سواء، مؤرخة لأحد أعنف مباريات الصراع بين المعسكرين الكبيرين آنذاك، الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، والغربي بقيادة الولايات المتحدة.
إرث ما قبل الحرب
لم تكن الأسباب الرئيسة للحرب الفيتنامية وليدة سنواتها، بل كانت نتاج سنوات من الكفاح التحرري والتحدي ضد الاحتلال الفرنسي والغزو الياباني ومحاولات التقسيم، جاءت ذروتها مع محاولة الولايات المتحدة استثمار قوتها العسكرية في تلك البقعة من جنوب شرقي آسيا، لمحاولة صد التوغل الشيوعي، التي انتهت بهزيمة عسكرية وسياسية للسمعة الأميركية وضربة قاسية لقدرتها الاقتصادية، ووصول الفيتناميين إلى محطة “التوحيد” بين الشمال والجنوب.
فقبل سنوات من تلك الحرب، كانت فيتنام واقعة تحت الاحتلال الفرنسي (منذ العام 1883)، واحتدم الأمر مع دخول القوات اليابانية بدايات الحرب العالمية الثانية، ليقبع سكان البلاد تحت احتلالين في آنٍ واحد، لكن بعد هزيمة طوكيو في تلك الحرب، سحبت الأخيرة قواتها من فيتنام، تاركةً الإمبراطور الفيتنامي باو داي يتولى مقاليد الحكم، لترى حينها رابطة استقلال فيتنام أو ما يعرف بـ”فيت مين” التي أسسها الزعيم الفيتنامي الشيوعي هو تشي منه، الفرصة سانحة لتستولي على مدينة هانوي الشمالية، وتعلن تأسيس جمهورية فيتنام الديمقراطية برئاسة منه، وهي الخطوة التي رفضتها باريس وسعت في المقابل لاستعادة السيطرة، عبر دعم الإمبراطور باو وإقامة دولة فيتنام الجنوبية في يوليو (تموز) 1949، وحينها بدأ التناقض الأيديولوجي بين ما يسعى إليه هو تشي منه وأنصاره من تكوين دولة شيوعية موحدة، في حين مال الإمبراطور باو للعمل على تكوين دولة بعلاقات اقتصادية وثقافية وثيقة مع الغرب.
وعلى مدار تلك السنوات، كانت حرب التحرير الوطنية ضد الفرنسيين “مستعرة”، وبحسب ما كتبه الجنرال الأميركي فيليب دافيدسون في كتابه “حرب فيتنام”، “بدأت حروب التحرير الوطنية التي استمرت لثماني سنوات ضد الفرنسيين، بانتهاز الثوار الفيتناميين فرصة هزيمة اليابان واحتلال هانوي عاصمة البلاد مرغمين الإمبراطور باو داي على التنحي عن الحكم، لكن فرنسا على الرغم من جراح الحرب المنهكة، بادرت إلى استعادة مستعمرتها فيتنام نهاية 1945 وبداية 1946، مجهضة أحلام الثوار في حكم بلادهم. وعندها أعلن الفيتناميون حرباً ضروساً على الفرنسيين اشتعلت أوزارها مع نهاية 1946، ثم انتهت بعد معركة ديان بيان فو (المعركة التي انتهت عملياً ما يقرب 100 عام من الوجود الاستعماري الفرنسي في الهند الصينية) الأكثر قسوة في تلك المرحلة يوم 8 مايو (أيار) 1954، وهي الهزيمة الأكبر التي مني بها الفرنسيون”.
وفي يوليو 1954، تم التوقيع على اتفاق جنيف الذي أنهى الحرب بين فرنسا وفيتنام بحضور وفود من فيتنام وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والصين الشعبية والولايات المتحدة ولاوس وكمبوديا، حيث نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين يفصل بينهما خط العرض 17، إلا أنه وفي الوقت ذاته وعلى الرغم من حضورهما في جنيف لم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق. وفور رحيل فرنسا من فيتنام بدأت الولايات المتحدة تساعد حكومة سايغون في الجنوب عسكرياً، حيث بدأ الرئيس الأميركي آنذاك دوايت أيزنهاور، في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، في تقديم الدعم العسكري لسايغون كما بدأ المستشارون العسكريون الأميركيون يتوافدون على فيتنام الجنوبية بدءاً من فبراير (شباط) 1955 من أجل تدريب الجنود.
وفق الوقائع التاريخية الموثقة لتطورات الأحداث التي تلت الدخول الأميركي العسكري على خط الأزمة الفيتنامية، فقد بدأت الأوضاع تزداد تعقيداً بعد امتناع أول حكومة منتخبة في فيتنام الجنوبية بقيادة نغو دينه ديم (تولت السلطة في الجنوب في 23 أكتوبر 1955)، عن أي استفتاء من شأنه أن يؤدي إلى اتحاد الشطرين، مبررة ذلك بعدم حرية السكان في الجزء الشمالي، في المقابل كانت حكومة الشمال الشيوعية مصممة على توحيد شطري البلاد.
وعلى وقع تلك التطورات، ومع إعلان اللجنة الدولية المكلفة مراقبة اتفاق جنيف، أسس الثوار الجنوبيون في فبراير 1959، الـ”فييت كونغ” (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وهي حركة مقاومة مسلحة فيتنامية نشطت بين 1954 إلى 1976 ضد الحكومة والتدخل الأميركي في البلاد)، وفي 10 ديسمبر (كانون الأول) 1960 تم تأسيس جبهة التحرير الوطني، وهي الإطار التنظيمي السياسي والعسكري الذي سيتولى مهمة الحرب ضد أميركا وحكومة سايغون، فما كان من الرئيس الجنوبي ديم إلا أن أعلن قانون الطوارئ. وقد تأجج الصراع وبلغ مداه حين أعلن الحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم في الشمال مساندة الثورة الجنوبية وإمدادها بالعدة والعتاد.
وبحسب مؤرخين أميركيين، امتد الدعم الأميركي لحكومة الجنوب إلى التدريب والتزويد بالمعدات العسكرية والأمنية، بالتزامن مع قيام قوات الأمن التابعة لحكومة سايغون بقمع المتعاطفين مع “رابطة استقلال الفيتنام”، وتم اعتقال نحو 100 ألف شخص. وبحلول عام 1957، بدأت “فيت كونغ” ومعارضون آخرون بالرد على نظام سايغون، عبر شن هجمات ضد المسؤولين الحكوميين، وفي عام 1959، وصل الصراع إلى الاشتباك المباشر بين “الفيت كونغ” والجيش الفيتنامي الجنوبي.
ذروة الحرب
في الأثناء ذاتها، وبحسب ما نقل موقع “هيستوري” المعني بالتوثيق والتأريخ، أعلنت الولايات المتحدة وقوفها التام خلف حكومة سايغون، ووصل الأمر إلى حد توقيع الرئيس جون كينيدي معاهدة صداقة وتعاون اقتصادي بين بلاده وفيتنام الجنوبية في أبريل 1961، موضحاً أنه في ديسمبر من السنة نفسها أعلن كينيدي عزمه مساعدة حكومة الرئيس ديم اقتصادياً وعسكرياً، ووصلت طلائع الجيش الأميركي إلى سايغون، وكانت في البداية 400 جندي عهد إليهم تشغيل المروحيات العسكرية. وفي السنة الموالية بلغ عدد الجنود الأميركيين في فيتنام الجنوبية 11 ألف جندي، كما أسست قيادة أميركية في سايغون منذ يناير (كانون الثاني) 1962.
وعلى الإثر، قام الأميركيون وحلفاؤهم الجنوبيون بقطع جبهة التحرير الوطني عن قواعدها عبر إقامة بعض القرى للمزارعين الموالين لحكومة الرئيس ديم، ولم تنتهِ سنة 1963 حتى بلغ عدد تلك القرى سبعة آلاف تضم ثمانية ملايين شخص، غير أن هذه الدروع البشرية أو الحواجز السكانية لم تمنع ثوار جبهة التحرير من السيطرة على 50 في المئة من تراب فيتنام الجنوبية.
ووفق ما وثقه المؤرخون، مع احتدام الحرب الباردة في جميع أنحاء العالم، وتشديد الولايات المتحدة سياساتها ضد حلفاء الاتحاد السوفياتي، كانت تقارير فريق الدراسة الأميركي، الذي أرسل لدراسة أوضاع جنوب الفيتنام في عام 1961، تشدد على ضرورة زيادة الدعم العسكري والاقتصادي والفني الأميركي لمساعدة حكومة سايغون في مواجهته ضد قوة هو تشي منه الشيوعية، واستجاب الرئيس كينيدي لذلك، خوفاً من تصدير المبادئ الشيوعية إليها، وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو تسعة آلاف جندي.
من بين الحوادث التي زادت من الاندفاعة العسكرية الأميركية، كانت حادثة مهاجمة زوارق من نوع طوربيد مدمرتين أميركيتين في خليج تونكين في أغسطس (آب) 1964، إذ أمر حينها الرئيس ليندون جونسون، خليفة جون كينيدي، بقصف انتقامي لأهداف عسكرية في شمال فيتنام. ثم مرر الكونغرس الأميركي “قرار خليج تونكين”، الذي أعطى للرئيس جونسون صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية، وسرعان ما بدأت الطائرات الأميركية بتنفيذ غارات قصف منتظمة، وفي مارس 1965، أعلن جونسون إرسال القوات الأميركية إلى ساحات المعركة في فيتنام، وبحلول يونيو (حزيران)، وصل عدد المقاتلين الأميركيين في فيتنام الشمالية إلى 82 ألف مقاتل، وهو العدد الذي زاد إلى 100 ألف جندي في نهاية يوليو 1965، و100 ألف آخرين عام 1966.
وبحسب الموسوعة البريطانية، لم يؤدِ القصف الجوي المتواصل في الشمال وسياسة الاستنزاف في الجنوب، فضلاً عن تزايد عدد القتلى بشكل كبير إلى ردع أحد الأطراف، إذ رفضت قوات هو تشي منه وقف القتال، التي كانت ترى أنها قادرة على إعادة استرجاع الأراضي التي خسرتها بالاعتماد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس، وعلى الدعم الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي. وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، وصل عدد القوات الأميركية في فيتنام إلى نحو 500 ألف عسكري، وبلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.
الطريق إلى سايغون
على مدار سنوات الحرب، كانت الاضطرابات السياسية التي تشهدها سايغون، محط انعكاس لضعف الجبهة الجنوبية في مواجهة إصرار الشماليين، ففي الأول من نوفمبر 1963، أطيح الرئيس ديم في انقلاب عسكري وتمت تصفيته جسدياً في ظروف غامضة، وخلال الـ18 شهراً التالية عرفت سايغون عشر حكومات عسكرية متعاقبة لم تستطع أي منها ضبط النظام، وبخاصة العسكري. كما كانت الانشقاقات بين العسكريين، وكذلك في صفوف الطائفة البوذية المستاءة من التحكم الكاثوليكي في الحكم هي السمة الأبرز في تلك الفترة، وعليه استغل ثوار جبهة التحرير الوضع المتأزم في الجنوب، فشنوا ضربات لإضعاف حكومات سايغون.
وفي مقابل إصرار فيتنام الشمالية على المضي قدماً في دعم ثوار الجنوب، كان لافتاً إعلان ممثلي واشنطن وحلفائها المشاركين في الحرب كأستراليا ونيوزيلاند وتايلاند وكوريا الجنوبية والفيليبين في مانيلا في أكتوبر 1966، استعدادهم للانسحاب من فيتنام بعد ستة أشهر إذا ما خرجت فيتنام الشمالية من الحرب، وهو إعلان رفضه الشماليون بصرامة. ولم تثمر دعوة الرئيس الأميركي جونسون الزعيم السوفياتي أليكسي كوسيغين إلى الضغط على هانوي لتنهي الحرب حين التقيا في يونيو 1967، بل ظلت نيران الحرب مشتعلة، فما كان من الرئيس جونسون إلا أن أعلن عزمه زيادة الجنود الأميركيين في فيتنام ليصل عددهم عام 1968 إلى 525 ألفاً، وهو الأمر الذي قوبل في الداخل الأميركي بمزيد من الانتقاد وخروج للتظاهرات المطالبة بوقف الحرب.
في 31 مارس 1968، أعلن جونسون وقف القصف الأميركي لشمال فيتنام، كما أعلن تقدمه لولاية رئاسية ثانية. ولم نصل إلى منتصف مايو من العام نفسه، حتى بدأت المفاوضات بين الفيتناميين والأميركيين في باريس. وعندما وصل ريتشارد نيكسون إلى رئاسة الولايات المتحدة عام 1969، أعلن أن 25 ألف جندي أميركي سيغادرون فيتنام في أغسطس 1969، وأن 65 ألفاً آخرين سيطبق عليهم القرار نفسه في نهاية تلك السنة.
وفي حين كانت مفاوضات باريس جارية، أخذت الحرب منحى خطيراً حين قامت فيتنام الشمالية في 30 مارس 1972 بهجوم كبير نحو الجنوب داخل منطقة كانغ تري متجاوزة بذلك المنطقة منزوعة السلاح، وكان رد الفعل الأميركي مزيداً من القصف الجوي، الأمر الذي وصل في 17 ديسمبر 1972، إلى إصدار الرئيس نيكسون أمراً بقصف هانوي وهايبونغ، وذلك قبل أن يتم الإعلان في 23 يناير 1973 عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 28 من الشهر نفسه، وتضمن انسحاب القوات الأميركية من جنوب فيتنام خلال الشهرين التاليين للتوقيع، وإطلاق سراح الأسرى من الطرفين خلال 15 يوماً، والاعتراف بالمنطقة منزوعة السلاح بين الشطرين على أنها مؤقتة لا على أنها حدود سياسية، فضلاً عن إنشاء لجنة دولية مكلفة مراقبة تطبيق الاتفاق، وبقاء 145 ألف جندي من شمال فيتنام في الجنوب.
وفي نهاية مارس 1973، غادر آخر جندي أميركي من فيتنام، وعليه واصل الشماليون إصرارهم على توحيد الدولة، مستغلين فرصة انشغال واشنطن بفضيحة “ووتر غيت” ضد الرئيس نيكسون، فشنوا هجوماً كاسحاً على الجنوب محتلين مدينة فيوك بنه في يناير 1975، وتابعوا هجومهم الكاسح الذي بدأ بإسقاط مدن الجنوب الواحدة تلو الأخرى، إلى أن توج التقدم بدخول العاصمة الجنوبية سايغون يوم 30 أبريل من العام نفسه، وسميت بـ”هو شي منه”.
وبحسب ما كتبه، الجنرال الأميركي فيليب دافيدسون في كتابه “حرب فيتنام”، فقد نفذ جيش فيتنام الشمالية عمليته الختامية في غضون أربعة أيام، ولكن الإعداد الذي سبقها استغرق عاماً كاملاً، كما تمكن جيش فيتنام الشمالية من إمداد أعداد غفيرة من قواته بما يلزمها لتنفيذ العملية الهجومية.
ووفق التقديرات الرسمية لخسائر الحرب، فقد قتل نحو مليوني فيتنامي، بينما أصيب 3 ملايين، وأصبح 12 مليوناً لاجئين، ودمرت البنية التحتية والاقتصادية للبلاد. في المقابل، قتل أكثر 58 ألف جندي أميركي (في عام 1982، وضع، في واشنطن، نصب تذكاري لقدامى المحاربين في فيتنام، وسجل فيه 58200 اسم لرجال ونساء أميركيين قتلوا أو فقدوا في الحرب) وجرح أكثر من 150 ألف آخرين، وقدرت السلطات الأميركية حجم ما تم إنفاقه على الحرب بنحو 120 مليار دولار أميركي.