على جدار مبنى في الأشرفية كتب أحدهم السؤال الآتي: إلى متى سنظلّ ناجين؟
هذا السؤال كُتب بالتأكيد بعد انفجار الرابع من آب، وهو لذلك يعبّر عن الصدمة الكبيرة التي خلّفها ذلك الانفجار في الوعي الجمعيّ اللبناني، وفي الوعي المسيحي أكثر من غيره.
يجعل هذا السؤال الصاعق احتمال الموت من جرّاء انفجار أو حادث أمنيّ في لبنان احتمالاً قائماً دائماً. فأن يعتبر مواطن/ة لبناني/ة أنّ نجاته من الانفجار هذه المرّة لا تعني أنّه سينجو من انفجار آخر في مرّة ثانية، فهذا يعبّر بوضوح عن يقين لديه/ا بأنّ ما حصل في المرفأ قد يتكرّر في أيّ لحظة طالما لم يتغيّر شيء في البلد بعد 4 آب.
هذا يجعل السؤال أعلاه سؤالاً سياسيّاً بامتياز، لا إنسانيّاً وجوديّاً وحسب. فإذا كانت السياسة، في تعريفها العقلاني، هي إدارة الشأن العامّ بما يحفظ حياة الناس ومصالحهم، فإنّ شعور مواطنين في بلد ما بديمومة التهديد لحياتهم ومصالحهم يعني، في المقام الأوّل، أنّ الممارسة السياسيّة للسلطة في بلدهم باتت مصدر ضرر مباشر لهم، بل ومصدر “قتل” محتمل في أيّ لحظة.
هذا السؤال كُتب بالتأكيد بعد انفجار الرابع من آب، وهو لذلك يعبّر عن الصدمة الكبيرة التي خلّفها ذلك الانفجار في الوعي الجمعيّ اللبناني، وفي الوعي المسيحي أكثر من غيره
ويُفترض بذلك أن يخلق ديناميّتين سياسيّتين متقابلتين في لبنان. فمن ناحية هناك السلطة القائمة التي باتت تُلحق ضرراً مباشراً بحياة الناس ومصالحهم بدلاً من حمايتها وحفظها. وفي المقابل هناك المتضرّرون في حياتهم ومصالحهم من جرّاء سياسات السلطة أو الائتلاف الحاكم.
ولعلّ هذا التقابل بين الديناميّتين هاتين هو المدخل الرئيس والوحيد الآن إلى إعادة تعريف الفعل السياسي ووظائفه ومآلاته المفترضة. وذلك باعتبار أنّ شعور المواطنين بالضرر المباشر لهم منذ 17 تشرين الأوّل 2019، وخصوصاً في لحظة انفجار مرفأ بيروت، ألغى الفصل بين الحقليْن السياسي والاجتماعي. فبقاء هذا الفصل، أي بقاء الفعل السياسي حكراً على السلطة وحدها وتسليم المواطنين بهذا الاحتكار، يعني استمرارَ ضرر السلطة بأشكاله المختلفة لهم.
عليه، فإنّ الممارسة السياسية في لبنان يفترض أن تسلك مساراً جديداً مُؤسّساً على سؤال رئيس: كيف يُرفع الضرر عن المواطنين اللبنانيّين من قبل السلطة القائمة؟
إنّه السؤال الذي لا سؤال سياسياً غيره منذ 4 آب 2020. وأهمّيته ليست في تعبيره عن التحوّلات في الوعي الجمعيّ منذ وقوع الانفجار وحسب، بل في تحفيزه على البحث والتفكير في الآليات السياسيّة والدستورية والقانونية التي يجب أن تتوافر لحماية المواطنين من ضَررِ السلطة القائمة ومن ضرر أيّ سلطة في المستقبل.
لذا يجب أن لا يسعى أيّ فعل سياسي معارض إلى إسقاط السلطة القائمة ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار والانفجار وحسب، بل إلى التأسيس لأرضيّة سياسيّة تتيح إنتاج روادع قانونية ودستورية لأيّ سياسيّ أو حزب أو مسؤول تلحق سياساته ضرراً بالشعب اللبناني. ولو كان هذا السياسي أو المسؤول رئيس أكبر كتلة نيابيّة في البرلمان، ولو كان هذا الحزب حائزاً أوسع تمثيل شعبيّ.
عليه، فإنّ الممارسة السياسية في لبنان يفترض أن تسلك مساراً جديداً مُؤسّساً على سؤال رئيس: كيف يُرفع الضرر عن المواطنين اللبنانيّين من قبل السلطة القائمة؟
فالدول الأوروبية لم تكتفِ بالتخلّص من النازية خلال الحرب العالمية الثانية، بل إنّ هذه الحرب كانت بداية مسار أوروبيّ جديد كان من بين أهدافه منع تكرار الظاهرة النازية التي وصلت إلى الحكم عبر الانتخابات.
والحال فإنّ ما شهده لبنان خلال العهد الحالي غير مسبوق لناحية تسخير أدوات السلطة لخدمة المشاريع السياسية الخاصة على حساب المصلحة العامّة، ولا سيّما في ظلّ انهيار اقتصادي غير مسبوق أصبح مطيّةً للائتلاف الحاكم، أي العهد والحزب، لتحقيق مشاريعهما البعيدة المدى.
نحن إذاً أمام سلطة لا تتسبّب بالضرر لمواطنيها فحسب، بل تستثمر في هذا الضرر لتحقيق مصالح قادتها الخاصة. وهذا نموذج سلطوي لا نظير له إلّا في الأنظمة الشمولية التي تقيس الضرر بمقياس مصالحها. فإذا كان الضرر، أيّاً يكن حجمه، مفيداً لها، فهي لا تتورّع عن التسبّب به ولو لشعبها، إذ إنّها أنظمة تسعى إلى التحكّم بالضرر لا إلى ردعه.
لذلك الأولوية السياسيّة الآن هي لوقف الضرر الواقع على الشعب اللبناني، ولمنع تكراره في المستقبل. لكن كيف، وما هي الآليات اللازمة لذلك؟
هذا السؤال هو بمنزلة مسار أكثر منه سؤالاً يبحث عن جواب فوريّ. فالمهمّ أن يصبح هذا السؤال المحرّك الرئيس للفعل السياسيّ المعارض الآن، وهذا يعني تلقائياً التفكير في كيفيّة إعادة إنتاج السلطة، لا في إعادة إنتاجها وحسب، بمعزل عن الوسائل المؤدّية إلى ذلك. فمثلاً، لا يمكن الاكتفاء بالمطالبة بانتخابات نيابيّة مُبكرة، بل إنّ الأصل هو في وضع قانون انتخابي يمنع تكرار تجربة انتخابات 2018، التي عكست نتائجها التطييف المكثّف للّعبة السياسيّة منذ تسوية 2016، التي أوصلت لبنان إلى الانهيار والانفجار. والأمر نفسه ينطبق على الانتخابات الرئاسيّة التي لا يمكن أن تخضع هذه المرّة أيضاً لمنطق “الأقوياء في طوائفهم”.
لذلك الأولوية السياسيّة الآن هي لوقف الضرر الواقع على الشعب اللبناني، ولمنع تكراره في المستقبل. لكن كيف، وما هي الآليات اللازمة لذلك؟
كلّ هذه الاختلالات كشفت ولا تزال تكشف عطب الديموقراطية، المسمّاة توافقية في لبنان، إذ هي تفسح في المجال لوصول أشخاص وأحزاب إلى الحكم تؤدّي سياساتهم إلى إلحاق الضرر بلبنان واللبنانيّين من دون أن تكون هناك آليّات قانونية ودستورية لردعهم. فإذا كانت الأولويّة الملحّة الآن هي لردع الائتلاف الحاكم عن التمادي في تخريب لبنان وتدمير علاقاته الخارجية وإلحاق الضرر بحياة اللبنانيّين ومصالحهم، فإنّ ذلك يوجب على السياسيّين والناشطين السياسيّين الجدّيّين التفكير في كيفيّة منع تكرار “ظاهرة” السلطة الحالية في المستقبل.
ويُفترض أيضاً بالجسم الحقوقي والقضائي أن يكون معنيّاً بالتفكير والبحث عن الآليات الضرورية لردع أيّ سياسي أو حزب تسبّب سياساته ضرراً عامّاً. إذ إنّ الحقوق والعدالة لا يمكن أن تتحقّقا في ظلّ سلطة تلحق الضرر بمواطنيها عوض أن تحميهم، وخصوصاً عندما تحاول هذه السلطة تسخير القضاء في معاركها السياسية والانتخابية على نحو مفضوح، كما شهدنا أخيراً في قضية شركة المكتّف.
ولعلّ المعادلة الرئيسة الآن أنّه كلّما تكثّف وعي الناس لضرر السلطة بهم ضعفت هذه السلطة. ولذلك يعمل الائتلاف الحاكم على كيّ هذا الوعي من خلال تضييع المسؤولية عن الانهيار وتضييع الحقيقة في انفجار المرفأ، وهو ما يرجّح احتمال حدوث انفجار مماثل في أيّ لحظة.
فما دامت هذه السلطة ناجيةً سيظّل السؤال “إلى متى سنظلّ ناجين؟” قائماً، ولعلّ الجواب عنه هو في شعارٍ آخر كُتب على جدارٍ آخر في الأشرفية ويقول: “إمّا نحن وإمّا أنتم”!