كتب عماد الشدياق في أساس ميديا:
صامَت السلطة السياسية عن قانون “الكابيتال كونترول” 18 شهراً، ثم فطرت على بصلة.
فالتسريبات حول مسودة مشروع القانون تظهر أن السلطة ما زالت تقارب الأزمة بعقلية العام 2019، وقد أعدّت قانوناً ربّما ينصف المودعين بعض الشيء بعد عام ونصف العام من الاستنسابية والظلم، فيحافظ على قيمة ودائعهم بالدولار ويعطيهم إياه “بالقطّارة”، لكن على سعر صرف أكثر عدلاَ. إلاّ أنّ القانون في المقابل، يقف عن هذا الانجاز فقط ولا يرتقي أكثر من ذلك ليلاقي مفهوم الخطة الجدية للتعافي.
فلو أقرّت السلطة القانون نفسه بدايات الأزمة وانكبّت بعد ذلك على وضع خطة إصلاحية رصينة قابلة للتنفيذ، ربّما كنّا اليوم على مشارف التعافي والانتهاء من مسلسل احتجاز الأموال، ولكُنّا على الأرجح قد فاوضنا صندوق النقد الدولي، وسلكت خطة هيكلة الديون وهيكلة القطاع المصرفي طريقهما نحو الحلّ… لكن “فالج لا تعالج”.
المسودّة عالجت تحرير العمليات المصرفية داخل لبنان، وكذلك تحرير الأموال المحوّلة من الخارج بعد تاريخ 17 تشرين الثاني 2019 من دون أيّ قيود، وسقوف استعمال بطاقات الائتمان في لبنان وخارجه، كما عالجت خصوصاً تنظّم السحوبات المالية بالدولار والليرة، فاعتمدت سعر منصة “صيرفة” التي ترجح التوقعات أن تنطلق الأسبوع المقبل ضمن سعر قريب من 10 آلاف ليرة.
وإضافة إلى ذلك عالجت مسألة التحويلات المالية من حسابات العملاء إلى الخارج لأسباب شخصية وعائلية ولأغراض مهنية وتعليمية وإقتصادية واضعة إيّاها في خانة الاستثناءات، وهو ما اعترضت عليه جمعية المصارف كثيراً بسبب شحّ سيولة الدولار لديها، فأكدت بكتاب أرسلته جمعية المصارف إلى رئيس اللجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، على أهمية تقييد حركة الأموال، عارضة تمويل هذه الاستثناءات من الاحتياطي الالزامي الموجود لدى مصرف لبنان.
الملاحظات التي يمكن تسجيلها على المسودة، هي التالية:
أولا، المسودّة تحدثت عن السحوبات من الدولارات المحتجزة إلى الليرة، بسعر صرف “حدّه الأقصى سعر الصرف المتداول في الأسواق”. الاستنتاج البديهي لهذه الجملة يقود إلى أنّ المصارف ستدفع الدولارات بسعر منصة “صيرفة” المنتظر أن يفعلها مصرف لبنان الأسبوع المقبل، ويُقال إن سعرها سينطلق من نحو 10 آلاف ليرة لبنانية.
مصادر “أساس” كشفت أنّ الاتفاق بين السلطة والمصارف، قضى باعتماد سعر المنصة في مقابل خفض سقف السحوبات بالليرة اللبنانية، وهذا يعني أنّ المودع الذي كان يسحب 1000 دولار شهرياً بقيمة 4 ملايين ليرة تقريباً على سعر 3900 ليرة لبنانية، فإنّه سيحافظ على 600 دولار في حسابه وسيُسمح له بسحب 400 دولار فقط وبالقيمة نفسها، أي 4 ملايين ليرة أيضاً.
المصادر تكشف أيضاً أنّ السقف المسموح به بالليرة اللبنانية سيُوحّد في المصارف كلها وسيُخفض أكثر مما هو اليوم، للحدّ من حجم “الكاش” بين أيدي الناس، بهدف تفادي التضخّم المفرط، وسيُعاد في المقابل تفعيل العمل بالبطاقات البلاستيكية والشيكات بشكل واسع، مع تسهيل تداول الشيكات وتخفيف القيود عليها في المصارف.
ثانياً، مضمون المسودّة فتح شهية جمعية المصارف للاعتراض على آلية الاستثناءات التي تخصّ التحويل إلى الخارج (التعليم والطبابة وكلفة المعيشة في الخارج، النفقات الملحة، القروض الناشئة قبل الأزمة). اعتراض الجمعية على هذه النقاط في القانون، بكتابها الموجه إلى النائب كنعان، أعطى إشارات إلى أنّ المصارف ربّما فشلت في الالتزام بالتعميم 154 لناحية تعزيز السيولة. وحتّى تلك التي نجحت لا تظهر استعداداً لصرف ما كوّنته في حساباتها، على الطلاب ومعيشتهم أو دفع الضرائب في الخارج، ولهذا حاولت التأكيد على أن لا يشمل احتجاز الأموال هذه الاستثناءات، وإلاّ فلتستخدم أموال الاحتياطي الالزامي الخاصة بها لدى مصرف لبنان.
كلام الجمعية يكشف أنّها ما زالت تتحسّس من الدفع من جيبها، وتفضّل ردّ الأموال لأصحابها من الأموال التي ما عادت في خزائنها الخاصّة، وهو احتياطي مصرف لبنان، الذي تكشف المصادر أنه بات قريباً من 200 مليون دولار فقط في أبعد تقدير (هذا غير الاحتياطي الإلزامي). وبحسب المصادر، هناك ضغوط تُمارس على الحاكم رياض سلامة من أجل خفض نسبة هذا الاحتياطي عن 15% إلى حدود 10%، وذلك من أجل تحرير جزء من أموال المصارف واستخدامها في دعم المواد الحيوية أشهراً إضافية مقبلة، لتأجيل “الانفجار”.
ثالثاً، تجمعات المودعين ومجموعات الضغط التي أنشأها المودعون منذ بداية الأزمة حتّى اليوم، بما فيها الدعاوى القضائية التي أقاموها أمام القضاء اللبناني والأجنبي، ستكون بلا قيمة في حال إقرار “الكابيتال كونترول”. لأنّ اقتراح القانون ينصّ على “مفعول رجعي” يعود إلى تشرين الثاني 2019. أي أنّه سيحصّن المصارف ويبرّىء ذممها من الدعاوى التي رُفعت بوجهها منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. وهي كثرت في الآونة الأخيرة. وكان آخرها قرار قاضية التحقيق في البقاع أماني سلامة، الذي قضى بوضع إشارة منع تصرف على عقارات جميع المصارف ورؤساء مجالس إداراتها.
البعض ذهب للسؤال عن توقيت هذا القرار، ومنهم جمعية المصارف نفسها، التي كشفت أوساطها لـ”أساس” أنّ الجمعية تعّد العدة لـ”مواجهة القضاء بالقضاء”، وذلك للردّ على قرار القاضية سلامة وغيره من القرارات والأحكام. لأنّ الجمعية بدأت تتلمّس نوايا وتوجهات من مودعين كبار وصغار يريدون استباق إقرار القانون بدعاوى جديدة، من أجل “ربط النزاع” قبل صدوره… علّ ذلك يُسعفهم في تحصيل ما يمكن تحصيله قبل نشره في الجريدة الرسمية، وبالتالي سجن الأموال 3 سنوات إضافية. وبالتالي “المفعول الرجعي” سيحيّد هذا الاحتمال.
رابعاً وأخيراً، فإنّ المسودّة بقيت قاصرة في مجال إعادة انتظام العمل في القطاع المصرفي وتطبيقه بشكلٍ عادل، لأنّ هذا الكلام “الجميل” و”المنمّق” الذي ورد في مقدمتها ما عاد يحاكي مشاكلنا المالية والنقدية اليوم، التي لا يمكن حصرها بفكرة “احتجاز ودائع وتحصين مصارف”.
بدايات الأزمة، كان الاقتصاد متعطّشاً لوقف نزف الودائع “من تحت الطاولة” نحو الخارج، لكنّ النزف دام 18 شهراً، وما يجب أن نصبو إليه اليوم بات البحث في وضع خطة تعافي شاملة وجديّة، تلحظ بشكل واضح: استرداد الأموال المحوّلة بعد 17 تشرين الثاني 2019، وإعادة هيكلة ديون الدولة وجدولتها، وضبط ايقاع العملات الأجنبية والوطنية على السواء، وهيكلة القطاع المصرفي وإعادة الثقة إليه من أجل بثّ الثقة مجدداً في نفوس الناس لتعود الأموال من البيوت إلى المصارف الذي بات أمراً مستحيلاً… فمن دون ذلك سيبقى القانون قاصراً ولا يلاقي طموحات صندوق النقد الدولي في عملية الاصلاح، ولا يلاقي “روح القانون” في المساواة بين المودعين، كبارهم وصغارهم.
تأخّر قانون الكابيتول كونترول كثيراً، فظهر بعد سنة ونصف السنة على شكل Placebo، أي دواء زائف لمرض يكبُر ويتعمّق ويفتك بجسد المريض الذي يشارف على الموت، فيما الأطباء (أهل السلطة) يتقاتلون على مقتنياته، ويلهون أهل المريض بحقن بنج يبتاعونها على 10 آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد.