مهدي عقيل
يظن البعض أن مشكلة سد النهضة الذي تقيمه أثيوبيا على مجرى نهر النيل الأزرق بدأت منذ عقد من الزمن. يقول الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل إن قضية تجويع مصر من خلال قطع مياه النيل الأزرق عنها، عمرها 800 سنة، وثمة وثائق في الفاتيكان عن دور الكنيسة الكاثوليكية (القرن الخامس عشر) بدعوة مملكة الحبشة إلى حرمان مصر من نيلها. في التاريخ الحديث، ليس صدفة أن اختيار أثيوبيا مواقيت بناء السدود، بدأ مع آخر إمبراطور لبلاد الحبشة عام 1953، واستمر حتى يومنا هذا. فقد استغل هيلا سيلاسي “ثورة الضباط الأحرار” في مصر وانشغال مجلس قيادتها في المرحلة الانتقالية من الملكية إلى الجمهورية. حينذاك، قامت أثيوبيا ببناء أول مسقط للمياه (يسميه البعض سداً) على النيل وهو “تيس أباي” بهدف توليد الطاقة الكهربائية. سقط هيلا سيلاسي ولم يسقط المخطط، ففي عز حرب تشرين/ أكتوبر عام 1973، قامت أثيوبيا ببناء سد “فينشا” بارتفاع 25 متراً، وكان مخصصاً للري. وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وبينما كان العالم يرقب استعدادات الولايات المتحدة لشن ما اسمتها “الحرب على الإرهاب”، استغلت أثيوبيا، على جاري عادتها، هذه الظروف الاستثنائية، فقامت بتوسيع “تيس أباي” عام 2001، ثم بناء مسقط إضافي بجانبه حمل اسم “تيس أباي2” ومضاعفة قوته إلى 73 ميغاوات. لم تتوقف المشاريع الأثيوبية، ومعظمها لتوليد الطاقة الكهربائية، إلا أن أحد أخطر فصولها هو مشروع سد النهضة الضخم، “درة سدود أثيوبيا”، والذي اختير له توقيت يوازي حجمه وخطورته، غداة اندلاع ثورات “الربيع العربي”، التي أول ما لفحت الدولة المصرية بعد تونس وأسقطت رئيسها حسني مبارك في 25 كانون الثاني/ يناير عام 2011. هذا المسلسل الأثيوبي الثقيل، ما كان ليستمر ويتطور بهذا الشكل لو حذا القادة المصريون حذو “البكباشي” جمال عبد الناصر ـ وليس الرئيس حتى ـ الذي إنبرى في العام 1953 لإيقاف المشروع الأثيوبي، عندما أثار القضية مع الرئيس المصري محمد نجيب وطلب إليه أن يكلّفه بمتابعة الموضوع مع الخارجية المصرية ومخاطبة إمبراطور الحبشة، وانتهت مشكلة أول سد بين القاهرة وأديس أبابا بورقة خطاب، قيل إنها من صفحة واحدة كتبها عبد الناصر بخط اليد على وجه السرعة، ووصلت إلى إمبراطور الحبشة عن طريق وزير خارجية مصر محمود فوزي. لم يرَ عبد الناصر ـ المُعتد بنفسه ـ ضيراً في مخاطبة إمبراطور الحبشة، “من ناصر إلى هيلا سلاسي”، فتضمنت رسالته تهديداً صريحاً بـ”وقف جميع الأعمال فوراً على مجرى النهر الذى يجرى في دماء المصريين ويعتبر تهديده هجوماً على حياتهم مما سيستدعى تحركاً مصرياً غير مسبوق في التاريخ ينهمر على أثيوبيا جحافل من الخليج إلى المحيط”. وبرغم أن الإمبراطور ثار وعلا صوته بعدما طالع الخطاب الموجه إليه من مجرد “بكباشى” (برتبة مقدم) على حد تعبيره، ولم يعتبره تهديداً صريحاً من مصر لبلاده وحسب، إنما فيه إهانة لهامة وعظمة الإمبراطور، عاد وأخذ بنصيحة الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور له، بألا يستهين بكلمات “بكباشى مصر” مثلما سمّاه هيلا سيلاسى، وألا يقلّل من شأن منصبه فى الجيش المصري، وأن يعتبر عبد الناصر “الرئيس المصري الفعلي” وليس اللواء محمد نجيب! وبالفعل، تراجعت أثيوبيا ورضخت لرغبة مصر وقلّل الإمبراطور ارتفاع السد من 112 متراً إلى 11.5 متراً فقط ليصبح مكانا لتجميع المتساقطات وتوليد الكهرباء. حقيقة الأمر أنه منذ لحظة إنتصار ثورة “الضباط الأحرار” في تموز/ يوليو 1952، بدأت مصر تضع نفسها على سكة إنشاء السد العالي. وتولت وزارات مصرية مناقشة كيفية حجز فيضان النيل وتخزين مياهه وتوليد طاقة كهربائية منه. أول مشروع كان من صنع المهندس المصري اليوناني الأصل أدريان دانينوس، حسب موقع “بي بي سي” بالعربية، وفي العام 1955 تقدم البنك الدولي بمعونة بما يساوي ربع تكاليف السد، لكن تم سحب العرض في العام التالي لما وصف بأنه “ضغوط استعمارية”. في العام 1958، وافق الإتحاد السوفياتي على إقراض مصر 400 مليون روبل روسي لتمويل المرحلة الأولى من السد. لم يرَ عبد الناصر ـ المُعتد بنفسه ـ ضيراً في مخاطبة إمبراطور الحبشة، “من ناصر إلى هيلا سلاسي”، فتضمنت رسالته تهديداً صريحاً بـ”وقف جميع الأعمال فوراً على مجرى النهر الذى يجرى في دماء المصريين ويعتبر تهديده هجوماً على حياتهم مما سيستدعى تحركاً مصرياً غير مسبوق في التاريخ ينهمر على أثيوبيا جحافل من الخليج إلى المحيط” وقبل أن يدخل السوفيات على الخط، قفز الأميركيون إلى أديس أبابا من خلال رجل المخابرات الأميركية إريك جونستون، صلة الوصل بين أثيوبيا وحكومة الولايات المتحدة التي وقعت على إتفاقية في أب/ أغسطس 1957، تقضي بوضع دراسة أميركية لحوض النيل الأزرق، وحسب موسوعة المعرفة، أفضت تلك الدراسة إلى تحديد 26 موقعاً لإنشاء السدود أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق الرئيسي: كارادوبي، مابيل، مانديا وسد الحدود (النهضة) بإجمالي قدرة تخزين 81 مليار م³، وهو ما يعادل جملة الإيراد السنوي للنيل الأزرق مرة ونصف تقريباً. والمؤسف أن “البكباشي” عبد الناصر كان يعتبر مشروع السد العالي من أكبر إنجازاته، وهو إكتمل قبيل رحيله بأسابيع (توفي في 28 أيلول/سبتمبر 1970)، فبادر خلفه الرئيس أنور السادات إلى تدشينه رسمياً في الخامس عشر من كانون الثاني/يناير 1971. مع وفاة عبد الناصر، راحت مصر تدفع ثمن تراجعها وتآكل مكانتها وضعف ثقلها على المستويين الإقليمي والدولي. وبدأت معها رحلة السدود الأثيوبية المشؤومة على مجرى النيل، كما ذكرنا آنفاً، وأمست أثيوبيا تمتلك حاليًا 19 سداً مائياً معظمها لتوليد الكهرباء؛ خمسة منها على مجرى النيل الأزرق مباشرة، وتنوي بناء ثلاثة سدود أخرى عقب الانتهاء من سد النهضة مباشرة. إقرأ على موقع 180 أوانٍ مستطرقة من مأرب إلى ميونيخ.. واليمن أولوية قطر! وتبدو الأمور متجهة بما يتوافق وتوجهات الحكومة الأثيوبية في ظل إرتباك الموقف المصري الذي لم يكن أفضل حالاً أيام الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، فالأول هدّد بقصف أديس أبابا إبان عهد منغستو هيلا مريام (…). والثاني حذّر أكثر من مرة، لكن ذلك لم يمنع أثيوبيا من اقتناص الفرص في 1973 و1995 و2001 و2011 وبناء السد تلو الآخر. تأخرت مصر كثيراً إلى أن أصبح سد النهضة (“سد الخراب” حسب الدكتور نائل الشافعي) على وشك الانتهاء، ولا تزال تتفاوض منذ تسع سنوات من دون جدوى، وأقصى طموحها حالياً لا يتعدى منع الملء الثاني للسد المزمع تنفيذه في تموز/ يوليو المقبل، وهو ما تعتبره القاهرة والخرطوم تهديداً لأمنهما القومي المائي، وتنظران إليه بأنه خطوة أحادية الجانب من أديس أبابا، برغم أن ذلك يبقى قضية هامشية، بعد أن خسرت مصر قضيتها الأساسية، وهي السماح ببناء السد من أساسه. وفي غالب الظن أن كثيرين يعزون أسباب ذلك إلى تراجع مكانة مصر، من لحظة رحيل عبد الناصر حتى كتابة هذه السطور، إلا أنه في الحقيقة ثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية عمّا سبق نوجزها بالآتي: أولاً، سوء العلاقة المصرية مع الدول الأفريقية عامة وأثيوبيا خاصة، إذ لم يولِ الرؤساء المصريون، عدا عبد الناصر، كبير اهتمام بتلك الدول، وطالما نظروا إليها بدونية، وظنوا أن ولاءها وحاجتها لمصر الحضرية أمر حتمي، وغفل هؤلاء الرؤساء عن أن الأفريقيين لن يبقوا على حالهم إلى الأبد، وسوف يخرجون من القمقم، ولم يحظَ رؤساء المحروسة بنصب تماثيل لهم في القارة السوداء على غرار تمثال عبد الناصر في جوهانسبورغ. ثانياً، ظنّ المصريون أن الساحة الأفريقية حكراً عليهم، ولم يدركوا أن دولاً تتربص بهم وتؤسس لدخول القارة السوداء من مختلف أبوابها المشرعة والمشلعة من الفقر والعوز والجوع. وليس في غفلة منهم تغلغلت إسرائيل وتجذّرت في كثير من الدول الأفريقية، إلى درجة أنه لا يمكننا أن نتصور أن تخطو أثيوبيا خطوة بحجم سد النهضة من دون مباركة وضمانة إسرائيل، وما أدراك ما نظرة تل أبيب إلى الدور المصري؟ ثالثاً، اعتماد القيادة المصرية في العقد الأخير أسلوب التفاوض سبيلاً وحيداً لثني أثيوبيا عن بناء سد النهضة، واستبعاد اللجوء إلى القوة الخشنة، وتأملها المفرط بمجلس الأمن، واتكائها على معاهدتي عامي 1929 و1959 المنظمتين لاستخدام مياه النيل، والقوانين والمواثيق الدولية بهذا الخصوص، لمنع تمويل السدود في منطقة حوض النيل، والتي أمست في خبر كان لدى الحكومات الأثيوبية المتعاقبة التي تدعي أحقيتها في بناء السدود على نهر النيل بذريعة تأمين الكهرباء لـ 85 ألف نسمة، حسب تعبير رئيس وزرائها آبي أحمد، دون أن تعير كبير اهتمام لـ”الخطوط الحمر” التي لوّح بها الرئيس عبد الفتاح السيسي. والمفارقة أن تنفيذ الملء الأول وتخزين المياه من دون توليد الكهرباء، يؤكد أن أهداف تخزين المياه سياسية أكثر منها تنموية تتذرّع بها أثيوبيا. رابعاً، الأسوأ من كل ما ذكر، أن الدولة المصرية التي طالما عرقلت جلب أثيوبيا للاستثمارات الدولية والإقليمية لسد النهضة، لم تقوَ اليوم على ثني أقرب حلفائها من الاستثمار فيه، بحيث أن السعودية والإمارات لم تتورعا عن الاستثمار في السد وغيره من المشاريع في أثيوبيا على حساب الدولة المصرية، وقدّمت أبو ظبي ودائع واستثمارات لأديس أبابا بقيمة ثلاثة مليارات دولار في حزيران/ يونيو 2018، والسعودية تخطط لإقامة مشروع ربط كهربائي بين أثيوبيا ودول الخليج، وقد ضخّت أربعة مليارات دولار في المشروع، وهذا إن دلّ على شيء إنما على عقم التحالفات وفقدان النديّة وسوء التعامل مع هامة ومكانة الدولة المصرية. صحيح أن الدور المصري انحسر لكن لا يجوز أن يصل إلى حيث هو اليوم، فعلى الأقل أن تحترم الدول العربية مصالح الدولة المصرية التي طالما كانت أم العروبة والممسكة بناصية القرار العربي. خامساً، تدعي واشنطن أنها تقف على الحياد في أزمة سد النهضة وأنها تحاول مراعاة مصالح حلفائها الثلاثة: أثيوبيا ومصر والسودان، لكن هذا “الإنسحاب” يصب بشكل غير مباشر في خدمة أثيوبيا، برغم التلويح لها بالعقوبات. حتى أن تعيين جيفري فيلتمان مبعوثاً أميركياً إلى القرن الأفريقي، وبأولوية حل أزمة سد النهضة، جعله يفترض مسبقاً أنه أمام “مهمة مستحيلة”، ما يعني أن أديس ابابا ماضية في مشروعها. سادساً، ليس الموقف الأميركي بعيداً عن الموقف الإسرائيلي. تحتاج مصر في هذه اللحظة التاريخية إلى توجيه رسالة تهديد ما إلى الإسرائيليين فتنطوي حكاية السد في اليوم التالي وتحفظ المحروسة أمنها القومي.