بلبلة في فرنسا: الجنرالات يلوحون بانقلاب!

حسن مراد|-المدن

 

بمزيج من الذهول والصدمة، تلقف الوسط السياسي والإعلامي في فرنسا الرسالة التي نشرتها صحيفة Actuelles Valeurs في 21 نيسان، وتمحورت حول ما تعانيه البلاد من “تفكك”.

الإشكالية ليست في مضمونها الذي طغى عليه خطاب اليمين المتطرف، بل بهوية الموقعين عليها: مجموعة من 1200 عسكري متقاعد من مختلف الرتب والوحدات العسكرية، تصدرهم 20 جنرالاً.

الموقعون توجهوا إلى رئيس الجمهورية والوزراء والنواب، معتبرين أن حالة التفكك التي تعيشها فرنسا يمكن تلخيصها في ثلاثة أسباب: أولاً انتشار خطاب “يناهض عنصرية معينة”، فمناهضة العنصرية “على هذا النحو” تؤدي إلى بث الكراهية وتتسبب في شرخ بين مختلف المكونات الاجتماعية الفرنسية. والسبب، بحسب الموقعين، أن دعاة هذا التوجه يسعون إلى إعادة النظر في ماضي فرنسا الاستعماري، ما قد يفضي إلى التنكر لتاريخ فرنسا ولأمجادها العسكرية والمقصود في هذا الاطار من يوصفون باليساريين الإسلاميين.

النقطة الثانية التي تناولتها الرسالة هي الإسلاموية، إذ من شأنها دفع مدن وأحياء بأكملها إلى تنظيم شؤونها بنفسها، وفقاً لقوانين خاصة بها وبعيدة من الأسس الجمهورية، وفقاً لما ورد في نص الرسالة. أما النقطة الأخيرة المؤدية إلى التفكك، فتتلخص في العنف المستخدم خلال مظاهرات السترات الصُّفر.

ولوح العسكريون المتقاعدون باحتمال حدوث انقلاب عسكري حين أشاروا إلى أن زملاءهم في الخدمة على أهبة الاستعداد للتدخل متى دعت الحاجة لحماية “قيمنا الحضارية ومواطنينا”، مؤكدين في الوقت ذاته دعمهم لأي توجه سياسي يضع نصب عينيه “حماية الأمة”، محذرين كذلك من وقوع حرب أهلية إذا ما استمر الوضع على حاله.

هذه الرؤية تتقاطع بوضوح مع طروحات أحزاب اليمين المتطرف، ما يفسر نشر الرسالة في صحيفة Valeurs Actuelles، غير البعيدة من هذا المزاج. وعليه، لم تبدُ مستغربة مسارعة مارين لوبان إلى مخاطبتهم من المنبر ذاته، لتدعوهم، في رسالة جوابية، للانضمام إليها وخوض هذه المعركة إلى جانبها.

خطوة لوبان تلك تؤكد الصورة النمطية المغروسة في الأذهان التي تعتبر أن “مجتمع العسكر” محافظ بطبيعته، ما يفسر جنحوهم نحو أقصى اليمين (بالحد الأدنى) خصوصاً أن هذه الأحزاب تحبذ الخيارات الأمنية – العسكرية على حساب الحلول السياسية.

الاعلام الفرنسي تفاعل على نحو واسع مع الرسالتين بدليل التغطية التي استمرت لأيام متتالية: صحيفة L’Express نشرت السير الذاتية لأبرز الجنرالات الموقعين على الرسالة. الصحيفة الفرنسية أشارت في هذا الاطار إلى أن عدداً منهم يدور في فلك أحزاب اليمين المتطرف، كما صدرت بحق بعضهم عقوبات مسلكية على خلفية أنشطة سياسية تتنافى مع النظم العسكرية. خلاصة توصلت إليها أيضاً إذاعة Franceinfo التي أكدت عبر موقعها الالكتروني أن الجنرالات الموقعين على الرسالة يتبنون جميعاً طروحات اليمين المتطرف كنظرية الاستبدال الكبير إلى جانب نظريات المؤامرة المتعددة الأوجه.

وزيرة الدفاع، فلورانس بارلي، خرجت عن صمتها في اليوم السادس: من خلال سلسلة تغريدات، وعبر صفحات Libération، اعتبرت الوزيرة الفرنسية أن هؤلاء العسكريين “عديمو المسؤولية” بعدما وقعوا الرسالة بصفتهم المهنية وليس الشخصية. فالقواعد العسكرية المرعية الاجراء في فرنسا تفرض الحيادية السياسية حتى على العسكريين المتقاعدين، وفقاً لبارلي، التي أضافت أن استدعاءهم مجدداً إلى الخدمة وارد في أية لحظة وبالتالي تقاعدهم ليس مرادفاً لانقطاعهم النهائي عن المؤسسة العسكرية.

كما شنت وزيرة الدفاع هجوماً على مارين لوبان، متهمة إياها بتسييس الجيش: فرسالتها تعكس جهلا بآلية عمل المؤسسة العسكرية، مسألة غاية في الخطورة إذا ما قوربت من زاوية سعي لوبان للوصول إلى سدة الحكم.

واختيار بارلي الرد عبر صحيفة Libération يمكن تفسيره بهوية الصحيفة اليسارية: فالوسط اليساري كان من أشد المتصدين لرسالة العسكريين المتقاعدين، لا سيما تغريدتي جان لوك ميلانشون (مرشح أقصى اليسار للانتخابات الرئاسية المقبلة) وبونوا هامون (مرشح الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية الأخيرة).

البلبلة التي تسبب بها العسكريون المتقاعدون مردها إلى أن ما أقدموا عليه يعتبر خرقاً للأعراف السياسية الفرنسية. فمنذ انتهاء الاستعمار الفرنسي للجزائر والمؤسسة العسكرية بعيدة من التجاذبات السياسية، وفقاً لصحيفة Le Figaro، التي أضافت أن هذه الخطوة تعتبر تحدياً مباشراً للرئيس ايمانويل ماكرون. موقف عبرت عنه كذلك صحيفة Le Parisien، بعدما وصفت الرسالة بغير المسبوقة، معنونة في هذا الاطار: حرب أهلية وشيكة في فرنسا؟

في ضوء ذلك، خرجت المؤسسة العسكرية عن صمتها، الأربعاء، من خلال مقابلة لرئيس أركان الجيوش الفرنسية، الجنرال فرنسوا لوكوانتر مع صحيفة “Le Parisien”، اعتبر فيها أن الرسالة “غير مقبولة” ولا تمثل العقيدة العسكرية الفرنسية “فالجيش يدين بالولاء للجمهورية وهيكليته تعكس تنوع المجتمع الفرنسي” في محاولة منه لنزع صفة التطرف عن الجيش.

وانسجمت ردود الجنرال الفرنسي مع تصريحات وزيرة الدفاع بعدما اعتبر أنه من حق العسكريين إطلاق مواقف سياسية لكن من دون تصدير هويتهم العسكرية إلى الواجهة، مذكراً بإمكانية استدعاء أي متقاعد لأداء مهمة محددة، ما يفرض عليه التزام الحياد السياسي على الدوام.

واستبعد لوكوانتر إقدام الجيش على انقلاب، ففرنسا تجاوزت هذه الحقبة منذ عقود، كما رأى أن تسييس الجيش لا يخدم الجمهورية. وكشف رئيس الاركان خلال المقابلة أن التحقيقات أظهرت أن 18 عسكرياً من الموقعين على الرسالة مازالوا في الخدمة، من بينهم أربعة ضباط، موكداً اتخاذ كافة الاجراءات بحقهم والتي قد تصل إلى حد فصلهم من الجيش. معلومة ضاعفت صدمة الرأي العام الفرنسي.

وصحيحٌ أنه يصعب استشراف مآلات خطوة العسكريين هذه وما إذا كانت ستتحول إلى محطة فارقة في الحياة السياسية الفرنسية، لكن المؤكد أن الجنرالات الموقعين على الرسالة يسعون إلى حجز موقع سياسي لهم، مستغلين الظرف السياسي الراهن.
لعلها رغبة منهم في اعادة وصل ما انقطع: فعلى مر التاريخ كان للمؤسسة العسكرية الفرنسية دور في الحياة السياسية خاصة إبان الحروب والغزوات، كما احتل عدد من قادتها مكانة مميزة في الوعي الشعبي من نابليون بونابرت وشارل ديغول، مروراً بمارشالات الحرب العالمية الاولى، ليتحول بعضهم أيقونة وطنية بعدما صنعوا مجداً عسكرياً و/أو سياسياً لفرنسا.

لكن انحسار نفوذ الجيش الفرنسي بدأ مع الهزيمة العسكرية التي منيت بها البلاد إبان الحرب العالمية الثانية، وخضوعها للاحتلال النازي برعاية المارشال بيتان. واستمر هذا الانحسار مع خسارة فرنسا لمستعمراتها، خصوصاً أن بعضها أتى على شكل هزيمة عسكرية (معركة ديان بيان فو). غير أن التحجيم الفعلي للمؤسسة العسكرية وإبعادها عن دهاليز السياسة تم على يد شارل ديغول بعد توليه رئاسة البلاد. فخلفيته العسكرية أتاحت له مجابهة الجنرالات في محاولتهم الانقلابية العام 1961 إبان حرب التحرير الجزائرية.

من جانب آخر، انتفت تدريجيا الأسباب التي كانت تدفع بالسياسيين للارتماء في أحضان العسكر مع نهاية الاستعمار من جهة، وإطلاق الشراكة الأوروبية من جهة أخرى. ويبقى امتلاك فرنسا للقوة النووية، مطلع الستينيات، العامل الأبرز الذي قلص نفوذ العسكر: فاستناداً إلى نظرية الردع النووي باتت فرنسا بمأمن بمجرد استحواذها على هذا السلاح.

اليوم، ما زالت فرنسا تعيش تبعات انتخابات 2017 الرئاسية وما نتج عنها من خلط للأوراق السياسية. يضاف إلى ذلك تدني شعبية إيمانويل ماكرون، ما يعزز توق الفرنسيين إلى التغيير من خارج الأطر الحزبية التقليدية.

وعلى اعتبار أن الجيش وقادته لم ينغمسوا في الحياة السياسية طوال العقود الستة الماضية، طُرح اسم رئيس الأركان السابق، بيار دو فيلييه، كمرشح رئاسي محتمل. وكان دو فيلييه قد استقال من منصبه بعد نحو شهرين على انتخاب ماكرون رئيساً لفرنسا بسبب الخلاف على خفض ميزانية وزارة الدفاع، ما اعتبر أول المؤشرات على “النهج الصدامي” للرئيس الجديد.

بالتوازي مع تراجع شعبية ماكرون، ازدادت شعبية دوفيلييه وهو ما أكده استطلاع للرأي نشر أواخر العام 2020، إذ أبدت نسبة 20% من الفرنسيين استعداداً للتصويت لدوفيلييه إذا ما ترشح لمنصب الرئاسة. لكن حتى الساعة، لم يرسل دوفيلييه أي إشارة عملانية تشير إلى رغبته في خوض السباق الرئاسي.

من المحتمل أن يكون موقعو الرسالة، لا سيما الجنرالات منهم، قد توصلوا في الآونة الأخيرة إلى خلاصة مفادها أن الظرف السياسي بات مؤاتياً لعودتهم إلى الحلبة السياسية (بصورة أو بأخرى). وإذا ما أضفنا إلى المشهد افتقادهم لشخصية بارزة تتصدر المشهد، في ظل عزوف دو فيلييه، يمكن التكهن بأن رسالتهم تلك كانت بغرض التسويق لأنفسهم في الوسط السياسي. فتكتلهم على شكل مجموعة يمنحهم نوعاً من الشرعية إذا ما قرروا الاصطفاف خلف جهة سياسية، ما يجعلهم في قلب المعادلة وليس على هامشها.

Exit mobile version