لا. ليس صحيحاً أنّه حين تقدّم رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب بطلب وظيفة في دولة قطر، فهذا يعني أنّه “آدمي”، وأنّه “لم يسرق” وأنّه يبحث عن عمل بعد خروجه من الحكم. عمل يقيه العَوَز ليؤمّن قوت يومه.
لا. ولا يعني أنّه كان حريصاً على خزينة الدولة، ولم يصرف نفوذه في تأسيس أعمالٍ تشفط أموال اللبنانيّين.
لا. ولا يعني أنّه أفضل من الرؤساء الذين سبقوه، وأنّه تجاوزهم في أمانته وفي حسن سيره وسلوكه.
فهذا الرجل، جاء إلى رئاسة الحكومة في زمن يعرف أنّه زمن الانهيار، حين كان المطلوب “حكومة إنقاذ”، توقف انهيار سعر صرف الليرة، وتصالح لبنان – الدولة مع العرب والعالم، وتنقذ الاقتصاد من الهلاك.
ولأنّه يعرف أنّ هذه حال البلاد، وأنّ الرئاسة ستكون أشبه بمقصلة سياسية ومعنوية، تقدّم إليها، عارفاً وواعياً أنّه سيكون الضحيّة في أيّ لحظة. تقدّم وهو يعرف أنّ المطلوب من أيّ رئيس أن يعيد الثقة بالمستقبل، وأن ينثر على المواطنين بذور الأمل. وإذ كانت البطالة تأكل أرزاق اللبنانيّين، كان على أيّ حكومة أن تضع في أعلى سلّم أولويّاتها، تأمين عشرات آلاف فرص العمل للشابّات والشباب.
ولأنّه يعرف كلّ هذا، فلم تفاجئه الأحداث، بل تقدّم إلى المنصب واثق الخطوة، حتّى حسبناه ملكاً يخبّىء في جعبته مفاجآت غير متوقّعة. وخرج من يدعونا إلى أن “نعطيه فرصة”. وما هي إلا 100 يوم على رئاسته، حتّى خرج علينا ليعدّد أنّه أنجز 97% من خطّته لإنقاذ لبنان.
ثم جلس متفرّجاً على الرئيس ميشال عون يُهين مقام رئاسة الحكومة، التي تمثّل كلّ اللبنانيّين، والتي هي مركز توزيع السلطات بعد اتّفاق الطائف، بالتجاوزات الدستورية، في الشكل وفي المضمون. ثم جلس مستمعاً فيما عون يُهين رئيس الحكومة المكلّف ويصفه بأنّه “كذّاب”. وجلس مُشاهداً انهيار الليرة من دون أيّ خطّة أو مشروع.
ألم يكن من أولويّات أيّ رئيس للحكومة ومن مهمّاته أن يبحث عن “عمل” للبنان كلّه، عن دور فقده بسبب المحور الذي جاء بحسّان دياب رئيساً. ألم يكن يجدر به أن يبحث عن “وظيفة” لهذا البلد، عن دور تفقده البلاد يوميّاً؟
انقسم اللبنانيّون على مواقع التواصل الاجتماعي، بين من هاجم دياب، وبين من اعتبر أنّه مسكين، يفتّش عن “مرقد عنزة” خارج هذه البلاد، التي لا ترحم رئيساً ولا موظّفاً، ولا فقيراً ولا ثريّاً. وإذا بات راتب رئيس الحكومة يساوي أقلّ من ألفيْ دولار، فإنّه، هو الموظف “الرفيع” بالجامعة الأميركية في بيروت، ما كان ضروريّاً أن يترك وظيفته ليعمل “رئيسَ حكومة الانهيار”.
كثيرون غضبوا من تسريب خبر عن أنّه، خلال زيارة رسمية لقطر، حيث كان يمثّل لبنان ويتحدّث باسم اللبنانيّين، راح يوزّع سيرته الذاتية، أو سيرة زوجته، لا فرق، باحثاً عن خلاص فرديّ لنفسه ولعائلته الصغيرة.
رئيس الحكومة هو المسؤول عن إدارة شؤون اللبنانيّين، وهو رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس بلد فجّر مجهولون مرفأه ذات 4 آب، وبات محاصراً من كلّ الجهات، بمصانع الكبتاغون، وبالصواريخ، وبالعزلة الدولية… فماذا يقول لنا ببحثه عن وظيفة؟ وأيّ نوع من الدروس يعطينا؟
ألا نستحقّ اعتذاراً منه؟ لأنّه فشل في مهمّته، وقرّر أن ينجو بنفسه، وأن يتركنا لنواجه الكارثة، أو الكوارث؟ فليعلن رئيس الحكومة أنّ هذه البلاد باتت غير صالحة للسكن والعمل، وأنّه حتّى منصب رئيس الحكومة ما عاد مغرياً. مثله نواب وجدوا وظائف في دول عربية، وتركوا لبنان، بينهم ديما جمالي ونديم الجميّل مع فارق الأسباب. وغيرهم سافروا ليديروا أعمالاً كانوا أنشأوها قبل فوزهم بالانتخابات النيابيّة.
نحن الشبّان والشابّات اللبنانيّين: هل يقول لنا هؤلاء النواب، ورئيس حكومتنا: “سنفروا بحياتكم”؟ اهربوا من هذا البلد؟ أليست دعوة صارخة إلى اليأس؟ إلى الاستسلام؟ إلى القفز، فرادى، من مركب البلد الغارق، كلٌّ يسبح إلى جهة، ويبحث عن شاطىء شخصيّ؟
هذه دعوة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، إلى الهجرة الجماعية، وإلى أن نترك هذه البلاد، ويفتّش كلّ واحد منّا عن حياة كريمة في أيّ دولة آمنة، تعرض علينا وظيفة محترمة.
ألم يسبقهم رئيس الجمهورية إلى الدعوة نفسها، حين قال لـ”الثوّار” خلال مقابلة تلفزيونية بعد ثورة 17 تشرين الأوّل 2019: “إذا ما في عندهم أوادم بهالدولة… يروحوا يهاجروا”.
إذاً نحن أمام رئيسيْن، ومجموعة من النوّاب، يدعون اللبنانيّين إلى المغادرة: ألا يجب أن نرتجف من الخوف والقلق؟
ربّما على هذه السلطة أن تنظّم “الخروج الآمن” للّبنانيّين من هذا المستنقع، بسياسة رسمية تهدف إلى تأمين فيزا لكلّ مواطن، ووظيفة إذا أمكن… لو سمحتم يعني، في أيّ دولة آمنة ومحترمة.
ولكم جزيل الشكر.