“ليبانون ديبايت” – ميشال نصر
على نهج شهرزاد وشهريار، يمرّر اللبنانيون أيامهم ولياليهم في انتظار قطع رأسهم على ما يبشّرونهم به مع انتهاء شهر رمضان. ولأن الليالي المِلاح احتاجت إلى قصص لتطيل عمر “الراوية”، كذلك تتوالد عندنا الملفات وتتراكم، عملاً بمبدأ “قوم لأقعد محلّك”. فها هو مرسوم ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل يتراجع لصالح تهريب “الرمّان بالكبتاغون”، لنركض بعدها الى الرياض “بايسين الأيادي” طالبين العفو والسماح. فإذا كان الأمر كذلك، لماذا فتح المعركة مع المملكة منذ البداية طالما “نحنا مش قدّها”؟
في كل الأحوال، وعلى جري العادة، موجة تصريحات مستنكرة، وإعلان عن إجراءات قلّما أصبحت واقعاً، واستسهال الأمر بجعل الملف أمنياً بامتياز، بدليل تسليم مفاتيحه لوزير الداخلية والبلديات، الذي يدير اتصالاته من السراي القديم، فيما المطلوب بالتأكيد ما هو أبعد، سياسياً واقتصادياً، في وقت يُجمع مسؤولو المملكة على أن الدولة اللبنانية بكل أجهزتها عاجزة حتى عن حلّ الملف أمنياً.
وفي انتظار ترجمة قرارات إجتماع بعبدا عملياً، من كشف التفاصيل الحقيقية لشحنة الكبتاغون وتوقيف الضالعين في الملف، وبعيداً عن الجدل حول قانونية صفقة أجهزة “السكانير ال 11″، تتعامل السلطات اللبنانية باستخفاف واضح نتيجة إدراكها أن إقفال الحدود ومنع التهريب، أقوى من قدرتها على تحمّله سياسياً وعسكرياً، لأسباب ترتبط بأمن الممانعة، وهو ما عبّر عنه بوضوح، من خرج ليقول إن التهريب عمل مقاوم. لذلك، تصبح المسألة أكبر من جهاز “سكانير” على المرفا أو النقاط الحدودية.
وهنا لا بدّ من التوقف عند جملة مسائل أبرزها:
– لماذا قرّرت الرياض الكشف عن عملية التهريب بعد شهرين من كشفها؟ وما هو سرّ التزام باقي الدول الخليجية بالإجراءات والموقف السعودي؟
– جُهّز مركز المصنع الحدودي سابقاً بجهاز “سكانير” تمّ تعطيله عمداً من خلال اصطدام الشاحنات به. فما الذي يضمن اليوم عدم تكرار التجربة؟ ومن يمكنه أن يقدّم الضمانات اللازمة؟ ومن الآخر، من يصدّق أن المسالة هي “سكانر”؟ - واضح مما جرى أن انفجار المرفأ، دمّر الحجر وقتل البشر، إلاّ أنه لم يُلحق أي أذى بتحالف الفساد الذي يرعى عمل هذا المرفق، رغم توقيف بعض الأشخاص. فهل يعلم المسؤولون أن اتصالات ترد من أمنيين لمسؤولين في المرفأ لوقف تفتيش “كونتينر” من هنا، وتسهيل خروج آخر من هناك، بناءً لطلب “حاج” أو أمنية “رفيق”؟ تكفي هنا مراجعة داتا اتصالات المسؤولين السابقين في المرفأ لاكتشاف “بلاوي متلتلة” في هذا الخصوص.
– لماذا الإصرار على أن الكبتاغون يتمّ إحضاره من سوريا، وما هي القطبة المخفية في ذلك، رغم أن معامله في القاع “على قفى مين يشيل”، حتى أن بعضها يحظى بحماية نافذين رسميين، وثمة عشرات التقارير الأمنية في هذا الخصوص. وهنا للتذكير، هل لجهابزة السلطة أن يخبرونا أين كان يحصل على سبيل المثال، زعيم جبهة “النصرة” أبومالك التلّي على المواد الأولية اللازمة لمعامل الكبتاغون التي كان يديرها في الجرود؟ الجواب ببساطة موجود في عشرات التقارير الأمنية المرفوعة إلى الجهات الأمنية، حيث كان مصدر هذه المواد التجار في الأراضي اللبنانية، والذين كان بعضهم يبيعه الكبتاغون “خالص مخلّص”، ليبيعه التلّي بدوره بعشرة أضعاف ما اشتراه. وما قصة أمير الكبتاغون إلاّ مثالاً ساطعاً على ذلك.
أمّا السؤال الأبرز لدعاة الوطنية الزائدة هذه الأيام: أوليس في كتاب الجغرافيا الذي يُعلّم في لبنان، نص واضح وصريح يتحدث عن منافع الحشيشة وتجارتها خلال عقد السبعينات وما قبلها، بوصف مردودها الإيجابي على ميزان المدفوعات اللبناني، كمداخيل غير منظورة “عوّمت الإقتصاد الوطني”. فأين هي سمعة لبنان من ذلك؟ أم أن “الحشيشة بسمنة والكبتاغون بزيت”؟
بالتأكيد كل ما تقدّم ليس من باب الترويج للكبتاغون أو الدفاع عن عمليات التهريب القائمة على قدم وساق، ولا من باب التخفيف من آثاره المدمّرة ومخاطره على الشعوب، وإنما من باب السؤال عن القطب المخفية خلف حقيقة ما يحصل وتوقيته، في وقت يؤكّد فيه المسؤولون اللبنانيون وجود تعاون أمني فوق العادة مع الجهات السعودية المعنية منذ فترة لمكافحة هذه العمليات.
في المقابل، حجّة الممانعة في الردّ واضحة: الرياض ولفّ لفّها تقدم أوراق اعتمادها لإسرائيل حيث سيجري استبدال المنتوجات اللبنانية بأخرى إسرائيلية. قد يكون ذلك صحيحاً ولكن يبقى السؤال: أوليست سياسية حماية المهرّبين والتهريب على أنواعه، الذي امتهنه هذا المحور، هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير؟ أوليست حربكم المجانية المفروضة هي من يدفع بالدولة كل مرّة إلى تبويس الأيادي لتصحيح المسار، وربما يوماً المصير؟ والأهمّ ما الذي سيتغيّر ليصبح ما كان ممنوعاً من الدولة السورية والدويلة الإيرانية بالأمس، مُباحاً اليوم؟ إنها بدعة الصبر الإستراتيجي نفسها، “زوبعة بفنجان وبكرا بتنتهي”.
إسمع البيانات تفرح، جرّب التطبيق تحزن… هو مثل لبناني شائع نجد له مكاناً في حياتنا اليومية. ولكن “لا تكرهوا شراً لعلّه خيراً” يقول الشاطر حسن، فقد نشهد انخفاضاً غير مسبوق في أسعار الخضار والفاكهة، في زمن أصبح فيه كل شيء “كوى ونار”… إنه نصف “الكباية المليانة”.