جسّد القطاع العقاري ملاذاً آمناً للمودعين لتهريب أموالهم المحتجزة في المصارف. حيث أظهرت إحصاءات دائرة السجل العقاري أن المؤشّر الوحيد الذي سجّل نمواً إيجابياً خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2020، هي المبيعات العقارية التي زادت 112.7% على أساس سنوي لتبلغ 10.077 ملايين دولار. ولكن ماذا بعد ذلك؟ كيف سيكون حال القطاع العقاري بعد هذه الفورة ؟
المديرية العامة للشؤون العقارية أصدرت مؤخراً بياناً أشارت فيه الى أنه مع “تفاقم أزمة القطاع المصرفي، وتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، وصعوبة الحصول على الأموال والودائع بالدولار نقداً من المصارف، عمد عدد كبير من أصحاب الودائع، لا سيما الكبيرة منها، الى سحبها بموجب شيكات واستخدامها في شراء العقارات الشاغرة والمبنية، ظناً منهم أنهم بذلك يحافظون على قيمة أموالهم بعدما فقدوا ثقتهم بالمصارف. لذا شهد القطاع العقاري في العام 2020 إرتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في تسجيل عمليات البيع والشراء، إذ وصل عدد العمليات إلى 82 ألفاً، أما القيمة المصرح عنها فوصلت إلى 14.4 مليار دولار، وربما كانت القيمة الحقيقية أكبر من ذلك. ولاحظت المديرية أنه “قد يكون جزء قليل من عمليات التسجيل عائداً إلى عقود بيع تمت في سنوات سابقة، ويتمّ تسجيلها الآن للإستفادة من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية وتراجع الرسوم”.
صورة عن القطاع العقاري
بعد هذه الفورة، “عادت عمليات البيع والشراء في القطاع العقاري لتسجل تراجعاً ملحوظاً، وانخفضت نسبة التسجيل الى أكثر من 80% مقارنة مع مطلع 2020″، يقول أمين عام “جمعية منشئي وتجار الأبنية في لبنان” المهندس أحمد ممتاز، “ففي تلك الفترة تهافت المودعون الى شراء العقارات بعدما حجزت المصارف أموالهم، فكانت الملاذ الآمن للحفاظ على قيمة ودائعهم. أما اليوم، وفي ظل وجود ثلاثة أسعار للدولار، وتدهور القدرة الشرائية للمواطن اللبناني، والتوترات السياسية والأمنية، وتقديم المواطنين أكثر من 300 ألف طلب هجرة الى الخارج تحت عنوان “روحة بلا رجعة”… تراجع الطلب على العقارات بشكل كبير. هذا ويلاحظ تراجع سوق العقارات في لبنان بسبب الحرب في سوريا والعراق، وعدم وجود أي دورة إقتصادية بالعالم، وخاصةً في الدول العربية”.
بدورها تقول مديرة تطوير الأعمال في SFA real estate ونائبة رئيس جمعية مطوري العقار لبنان- “ريدال” ميراي القراب أبي نصر: إن “القطاع العقاري يشهد جموداً تاماً لعدة أسباب، ومنها:
• إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب من العام الماضي، “الجريمة العظيمة” التي دمرت جزءاً كبيراً من مدينة بيروت، وزرعت الخوف بين اللبنانيين، ما اضطر العديد من الشركات الى إغلاق أبوابها، والى تراجع بيع الشقق السكنية.
• التوترات السياسية والعجز عن تشكيل حكومة لإعادة ثقة المواطن.
• خفض ديون المطورين وتحسين نسبها. ففي حزيران 2020 إستفادت المصارف من الأزمة عبر تخفيض نحو 15 مليار دولار من الديون العقارية المترتبة عليها، بعدما بلغ دين القطاع العقاري في العام 2019 حوالى 19 مليار دولار. وهكذا تخلّص تجار البناء والشركات العقارية من ديونهم تجاه المصارف، حيث تم تسديد ثمن أكثر من 95% من المبيعات العقارية بواسطة الشيكات المصرفيّة. ولكن بعد تسديد التجار ديونهم توقّف معظمهم عن القبول بالشيكات المصرفية، وباتوا يطالبون بدفع نسبة من ثمن العقار بالدولار الطازج.
• تراجع الحسومات بعدما كانت تُقدم بنسبة 30 و40 وصولاً الى 50%، ورفع أسعار العقارات بنسبة 1.5 في حال كانت عملية الشراء عبر شيك مصرفي، بعدما لاحظ المطورون أن الإقبال على شراء العقارات ما زال كبيراً”.
“العقار” ليس عملية مضاربة
وبرأي القراب فان “العقار هو إستثمار طويل الأجل، فان لم نستفِد منه اليوم ستكون له فائدة في المستقبل. فالمودع أصاب حين اشترى عقاراً بمبلغ صغير بهدف إخراج أمواله من المصرف، لكن هذا المستثمر الصغير هو أول من سيحاول بيع عقاره في المرحلة المقبلة لأنه سيكون بحاجة أكثر الى الأموال مع إستمرار تردي الأوضاع المعيشية، وهو لن يحقق ربحاً من هذه العملية، إنما سيحافظ على قيمة أمواله. أما بالنسبة للمستثمر الكبير، فلن يحتاج الى الأموال قريباً، وبالتالي لن يقدم على البيع في الفترة المقبلة. ويكون بهذه الطريقة إستفاد من الأسعار المتدنية والعروضات”.
في هذا الوقت تشهد مشاريع البناء الجديدة تراجعاً لافتاً، حيث لا تشكل أكثر من 20% من مجمل عدد المشاريع القائمة. وهذا يعود بحسب ممتاز إلى عدة عوامل، أبرزها: عدم وجود أي قروض مصرفية جديدة، وإستمرار إستيراد لبنان مواد البناء بنسبة 100% وتسعير تكلفة شرائها بالدولار النقدي، وغياب الطلب على العقارات بسبب الضيقة المعيشية التي يمر بها الشعب اللبناني، وعدم رغبة المقيمين في الخارج الإستثمار في لبنان نظراً للتوترات التي يشهدها البلد”.
لمحة إيجابية
وعلى الرغم من هذا الواقع السوداوي تحاول القراب النظر الى النصف الممتلئ من الكأس، وتقول: “هناك عدة نقاط إيجابية لهذه الفورة، إذ إنها ساهمت في ازدهارالنشاط الإقتصادي في مناطق الإصطياف الجبلية، والتي ظلت مُهمشة لفترة طويلة.
إنطلاقاً من كونه يشكل حوالى 40% من الحركة الإقتصادية في لبنان فان القطاع العقاري يعتبر “أحد أهم عوامل الدورة الإقتصادية”، برأي ممتاز. “لذلك نلاحظ أن الوضع الإقتصادي تدهور قبل ثورة 17 تشرين، عندما تراجع سوق العقارات في لبنان بسبب غياب دعم الحكومة في هذا المجال”. من جهتها تؤكد القراب على صعوبة تكهن ما سيحصل في المستقبل، ولو أن قيمة الممتلكات العقارية ستبقى متماسكة على عكس أي إيداع في المصارف. حيث يبقى إستثمار الأموال في العقارات أسلم، لانه سيعاود نشاطه بعد إنتهاء الأزمة”.