تأليف الحكومة ممنوع إلى ما بعد الانهيار

كتب طوني عيسى في الجمهورية:

قبل يومين، فوجئ الحاضرون بقطب سياسي يقول: «دَعوا مسألة تأليف الحكومة جانباً. هي ليست مطروحة جدياً. ثمة أمور ساخنة جداً يراد إمرارُها أولاً، ولا يريد أحد أن يتَحمَّل المسؤولية عنها مباشرة. جميع المعنيين بالسلطة يريدون أن «يَمْسَحوا» موبقاتهم بحكومة دياب اليتيمة، خصوصاً بعدما صارت في وضعية تصريف الأعمال. وبعد ذلك، سيكون لكل حادث حديث».

الكلام المتداول في الأوساط السياسية، هذه الأيام، لم يعُد ممكناً إخفاؤه، خصوصاً لجهة ما يتضمَّن من توقّعات مرعبة. والفرضية الأكثر شيوعاً تقول: حتى اليوم، وقف لبنان مترنّحاً على حافة الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وحتى الأمني. لكن استمراره على هذه الحافة مستحيل، وهو فعلاً بدأ يفقد التوازن. وفي الأسابيع والأشهر القليلة الآتية سينهار بالكامل وينقلب رأساً على عقب.

من هذه الزاوية، يُنظَر إلى مؤشرات مفصلية أو مصيرية، على المستويات المالية – الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهي جميعاً على وشك أن تبلغ الذروة وتُفجِّر نقمة عارمة:

– القرار الحسّاس برفع الدعم عن السلع.

– إشكاليات «المنصّة» التي ستتولّى تحديد سعر الدولار.

– حراك المجلس النيابي لإقرار «كابيتول كونترول» مُثير جداً للجدل ببنوده وتوقيته.

– «الغليان» القضائي في الملف المصرفي، بين القاضيتين غادة عون وأماني سلامة ومرجعيات السلك القضائي.

– المسار الغامض لملفات التحقيق والتدقيق، من مصرف لبنان إلى سائر الإدارات والمرافق.

– الصدمة الخليجية بتضييق الحصار من خلال وقف استيراد المنتجات الزراعية اللبنانية.

– الضربة القاتلة المحتملة، في أي لحظة، إذا قرَّر دائنو لبنان بسندات «اليوروبوندز» رفع دعاوى على الدولة، ما قد يؤدي إلى فرض حجزٍ على ممتلكاتها في الخارج، بما في ذلك الاحتياطي من الذهب وربما الموارد النفطية في المتوسط.

– فوق ذلك، السيف المُصْلَتُ فوق أعناق اللبنانيين سيكون مفاوضات الناقورة. فالأميركيون والفرنسيون والإسرائيليون يصرّون على بلوغ المفاوضات نهاياتها سريعاً، ما يسهِّل مدّ شبكة الغاز بين الشرق الأوسط وأوروبا.

إنّ كلّاً من هذه المؤشرات كفيل بخلق حالة تفجيرية في لبنان. لكن الشرارة التي ستشعل النار في الهشيم هي رفع الدعم. ولن تجدي البطاقة التمويلية في محاصرة الحريق، بل إنها ستزيد النقمة شعبياً، لـ3 أسباب:

1 – هناك شكوك في أنّ هذه البطاقة سترى النور أساساً، أو أنها ستستمر طوال فترة الحاجة إليها.

2 – هناك شكوك في أنها ستؤمِّن للعائلات التي حصلت عليها ما يكفي لسدِّ الجوع، خصوصاً إذا طرأ تراجع دراماتيكي على قيمة الليرة.

3 – هناك شكوك في أن اختيار العائلات المشمولة بالبطاقة سيكون في منأى عن المحسوبيات، خصوصاً أن السياسيين لا يفوِّتون فرصة لرشوة الناس وإرضاء المحاسيب على أبواب سنةِ الانتخابات.

هذه النقمة ستتكامل مع إقرار قانون «الكابيتال كونترول» الذي نام عليه أهل السلطة والمال يوم كانت الحاجة ماسّة إليه في 17 تشرين الأول 2019، وأبقوه طي الأدراج.

وهذا القانون فَقَدَ وظيفته الأساسية المفترضة، وهي منع حيتان السلطة والمال من تهريب ملياراتهم إلى الخارج، سواء خلال فترة إقفال المصارف أو خلال فتحها، فيما حُرِم المواطنون العاديون من دولاراتهم بشكل كامل.

واليوم، وفيما «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب»، جاء هؤلاء أنفسهم يكملون الخديعة باختراع «كابيتال كونترول» على قياسهم، هدفه تشريع «الهيركات» على ودائع الناس إلى حدود عالية جداً (ربما تبلغ لاحقاً 80 % أو 90 %).

وسيترافق ذلك مع تحرير سعر الصرف لمصلحة الأقوياء الذين استولوا على دولارات الضغفاء، ومع ارتفاع نِسَب التضخم أضعافاً، وصرْف آلاف الموظفين من أعمالهم في القطاع الخاص، واحتمال توقف الرواتب في القطاع العام. وكلّ ذلك فيما لبنان يعاند في الاستجابة لأي خطة إنقاذ، ويوقف مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، ويُحرَم من أي مساعدة مالية دولية أو عربية بسبب الفساد.

القوى السياسية النافذة تعرف أنها وصلت إلى الخط الأحمر، وأن القنبلة ستنفجر بين أيديها في أي لحظة. ولذلك، هي تفضّل إبقاء حكومة التصريف الحالية، المصنَّفة «شبه مستقلة»، والتي تترأسها شخصية غير سياسية، في الواجهة ولو شبه ميتة. وفي عبارة أخرى لا تخلو من وقاحة، يريدون حكومة دياب «مَمسحة» لموبقاتهم.

ومع أن هذه القوى منخرطة في الحكومة من خلال وزراء حزبيين أو شبه حزبيين، فإنها تتقصّد عدم تشكيل حكومة جديدة حالياً، حتى لا تصبح موجودة في الحكم مباشرةً وتتحمَّل مسؤولية عن الكارثة لا يَرقى إليها الشكّ. وهي تفضِّل الانتظار حتى يحصل الانهيار وتَضيع المسؤوليات ويسقط كل شيء. عندئذٍ، تغسل أيديها «مِن دم هذا الصدّيق»، وتعود «ببراءة» إلى الحكومة.

لكنّ تهرُّب القوى الداخلية من المسؤولية لا ينفي أهمية العقدة الأساس، الخارجية، وهي: هل يشارك «حزب الله» في الحكومة أم لا، وما حجم نفوذه فيها؟ وبمعنى آخر، هل ستكون الحكومة أقرب إلى ما يريده الأميركيون أم الإيرانيون؟

هناك ترابط بين العقدتين الداخلية والخارجية. فالقوى المحلية تخوض معاركها بالوكالة عن قوى إقليمية. وفسادها جزء من آليات تمويلها الداخلي، أي انه يتكامل مع آليات تمويلها الخارجية. ولذلك، تبدي القوى الخارجية استياءها من الفساد اللبناني استنسابياً. فتحاربه عندما يكون في صفوف الخصم، وتدعمه عندما يكون لدى الحلفاء. والنماذج لا تُحصى، منذ عشرات السنين.

إذاً، الآن، هو الانهيار أولاً، وبعده تتشكَّل الحكومة. وكل الذين «يَحورون ويَدورون» في لبنان و»عواصم القرار» لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون في ملف تأليف الحكومة. فقط، هم «يُظَبِّطون» أوضاعهم في انتظار ساعة صفرٍ، واضحٌ أنها لم تَعُد بعيدة.

 

 

Exit mobile version