الجمهورية – جوني منير
المشهد في لبنان غير قابل للتصديق. جميع من في السلطة يقرّ بأنّ لبنان بات على وشك الانهيار الشامل، وأنّ المدة الفاصلة لا تتجاوز الاسابيع المعدودة، ولكن في الوقت نفسه لا وجود لأي معالجات جدّية او خطة طوارئ انقاذية، بل ما يشبه الاستسلام الكامل للحظة الإرتطام.
في الجلسات الجانبية ما يشبه الإجماع على أنّ لبنان سيصبح بلا كهرباء اواخر ايار المقبل أو ربما مطلع حزيران على ابعد تقدير. الاحتياطي الإلزامي الموجود في مصرف لبنان يوشك على ملامسة سقف الـ 15 مليار دولار. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والذي كان طيفه حاضراً في عوكر خلال أحداث «شركة مكتف»، وصل اليه أنّ رئيس الجمهورية يريد منه ان يستمر في سياسة الدعم مهما انخفض سقف الاحتياطي الالزامي. لكن سلامة تمسّك برفضه، إلاّ اذا وصلته رسالة خطية موقعّة من رئيس الحكومة ووزير المال تطلب منه ذلك.
فالاحتياطي الالزامي هو ما تبقّى من اموال المودعين في المصارف، ولن يتحمّل احد مخاطر خرق القانون. أضف الى ذلك، التحذيرات الدولية، وآخرها ما صدر عن «موديز»، من أنّ خرق حاجز الـ 15 مليار دولار سيدفع بآخر المصارف المراسلة «جي. بي. مورغان» الى وقف تعاملها مع لبنان، اي انقطاع لبنان كلياً عن الحركة المالية العالمية.
في موازاة ذلك، فإنّ سياسة رفع الدعم او ترشيده، تشترط الحكومة اقراره في مجلس النواب. لكن الكتل النيابية تتهرّب منه، كونه غير شعبي، وهو ما سيؤدي الى مضاعفة خسارتها الشعبية. وهنا يأتي دور البطاقة التمويلية والمطروحة كبديل «مهدئ» في حال رفع الدعم جزئياً، وهذه البطاقة التي تحتاج للإقرار في مجلس النواب تعترضها ثلاث عقبات اساسية:
الاولى تتعلق بتمويلها، مع الإشارة الى انّ الرأي يتجّه الى مبلغ الـ 246 مليون دولار ومصدره الامم المتحدة. والثانية تتعلق بتنظيم اللوائح. ذلك ما هو جاهز حتى الآن اللائحة التي اعتُمدت سابقاً في مساعدات الدولة، والتي تحتوي على نحو 200 الف عائلة. لكن المطروح الآن لائحة من 750 الف عائلة باتت تحت خط الفقر، وهو ما يتطلب فترة زمنية لا بأس بها لإنجازها. والثالثة، وهي الأكثر صعوبة ربما، تتعلق بالسلوك الدائم للقوى السياسية والحزبية، والتي ستجد في هذه المساعدات «فرصة انتخابية» لإمرار المحسوبيات.
هذا مع الاشارة الى انّ رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب، يردّد أنّه أعدّ خطة سرّية للبطاقة سيكشف عنها في حينه.
ووفق ما تقدّم من انّ السبيل الوحيد المتاح، هو الدفع في اتجاه ترشيد الدعم الى جانب تحضير البطاقة التمويلية قبل نهاية ايار. لكن الارتفاع الجنوني الذي ستشهده الاسعار سيدفع حتماً بالناس الى الشارع مجدداً، وهنا خطورة الموضوع.
فالقوى الامنية والعسكرية، والتي ينتمي معظم عناصرها الى الطبقة الفقيرة، سيزداد وضعها صعوبة. فكيف لعنصر ان يندفع في مهماته لردع المتظاهرين فيما عائلته تعاني من الظروف نفسها؟
وتشير التوقعات، الى انّ الاحتجاجات ستعمّ الشوارع، وانّ هنالك توجّهاً لدى البعض بالذهاب الى منازل السياسيين والنواب والوزراء والمصرفيين وجميع الذين يرتبطون بالطبقة السياسية الحاكمة.
القوى الامنية والعسكرية ستستمر في تطبيق سياستها المعروفة: عدم التعرّض للمحتجين في سياق حرية التعبير عن الرأي، والتدخّل لقمعهم في حال لجأوا الى اعمال شغب او تعدٍ على الممتلكات العامة والخاصة.
لكن السؤال حول القدرة على ضبط الوضع، في حال كانت التحركات شاملة وواسعة، ومعنويات العناصر الامنية والعسكرية متأثرة سلباً بسبب الارتفاع الكبير للاسعار.
وهنا يأتي دور البحث في الخلفيات السياسية، وهو الجانب الاهم من المشكلة. ذلك أنّه وبخلاف التوقعات السطحية التي رافقت دخول الرئيس جو بايدن الى البيت الابيض، فإنّ الادارة الديموقراطية، والتي ترفض التعاون الآن في الملف اللبناني، مستمرة في سياسة ضغوطها على «حزب الله» في لبنان لتعديل حجمه الاقليمي.
قرار السعودية بوقف استيراد الخضار والفاكهة من لبنان، وان كان له ما يبرّره، الاّ أنّه يؤشر أولاً الى انّ المسار التصاعدي الضاغط على الاقتصاد اللبناني ما زال مفتوحاً، خصوصاً مع ملاقاة دول الامارات والكويت والبحرين، ووسط همسات تحذّر من أن يتوسع هذا القرار ليشمل كافة المنتجات الصادرة من لبنان، أي انّ الاتجاه تصعيدي.
والمؤشر الثاني جاء من المصارف المراسلة التي انسحبت كلها باستثناء «جي بي مورغان»، وهو ما يفتح باب الاجتهاد بأنّ واشنطن ربما تقف وراء هذا التموضع المالي الجديد، بهدف الامساك بنحو افضل باللعبة المالية والتحكّم بمسارها وتصعيد الضغوط الى الحدّ الاقصى، عندما يتوافق ذلك مع التوقيت السياسي.
في اي حال، فإنّ الزيارة الاخيرة لوكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل لم تحمل مساعي او اقتراحات عملية، بل فقط الدعوة الى تأليف حكومة بعيدة من تأثير القوى السياسية، لفتح الباب امام المساعدات. صحيح أنّه لم يعترض على تسمية «حزب الله» وزراء غير سياسيين او حزبيين في الحكومة، لكنه كان يتحدث بلغة ديبلوماسية عن حكومة لا تخضع لـ»حزب الله» و»التيار الوطني الحر»، أي حكومة مختلفة عن توازنات المجلس النيابي. وجاء تناوله طعام الغداء في منزل حاكم مصرف لبنان، رسالة واضحة حول الدعم الاميركي المباشر للمصرف المركزي ووجوب عدم المساس به. ووفق هذه الاشارات فإنّ المنحى الاميركي لا يزال تصعيدياً