ديبلوماسية هارون الرشيد

نبيه البرجي-الديار

أن يسأل بدر شاكر السياب «لماذا لا نذكر سوى قدميّ هولاكو في عيون الثكالى؟ لماذا لا نرى في دجلة سوى… مقبرة الماء؟».

أما مظفر النواب «لا حمورابي هناك. لا نبوخذنصر هناك. لا هارون الرشيد هناك. أقزام، أقزام، أقزام…»!

لم يعد من أثر للميتولوجيا السومرية، وحيث الخيال ما قبل الديني سبق الخيال الديني في صناعة آدم. ولم يعد من أثر للميتولوجيا البابلية، وحيث الثور المجنح يجر وراءه الأزمنة. لا مكان سوى للمواويل الحزينة. لعلها… مواويل الدم.

ما حدث في مستشفى ابن الخطيب (لقب فخر الدين الرازي) أضاء مدى الاهتراء المروع في مؤسسات الدولة. عائدات النفط منذ الغزو الأميركي عام 2003 وحتى الآن تجاوزت التريليون دولار. الرقم يكفي لبناء دول وليس فقط لانشاء مستشفى يليق بالكائنات البشرية، أو لاقامة شبكة للكهرباء لا تبقي أهل البلد في العصر الحجري.

مثلما قال مظفر النواب، يردد الآن ذوو ضحايا الحرائق وذوو ضحايا الانفجارات: أقزام، أقزام، أقزام…

أرض الرافدين التي تتاخم ست دولة محورية (سوريا، السعودية، الكويت، الأردن، تركيا وايران) يمكن أن تضطلع بدور مؤثر في صياغة المعادلات، وفي صياغة العلاقات، التي تحكم المسارات الاستراتيجية في المنطقة. العكس الذي حدث. العراق، وبفعل القيادات الهشة، وبفعل الشبق الهستيري الى السلطة، تحول الى مسرح لكل أشكال الصراعات.

ربما كانت نقطة الضوء الوحيدة في المشهد العراقي ما تقوم به حكومة مصطفى الكاظمي لعقد حوارات بين السعوديين والايرانيين، وبالكثير من التفاؤل، في وضع حد للصراع العبثي بين الجانبين.

من الطبيعي، في ظل الفراغ الذي تعيشه المنطقة ليس فقط بسبب غياب المنظومة الاقليمية التي تضبط خطوات كل فريق، وانما بسبب فوضوية التاريخ، وكذلك فوضوية الايديولوجيات، أن تتشكل أكثر من لوثة جيوسياسية مرضية، دون أن تأخذ بالاعتبار أن القوى العظمى (قوى الوصاية) لا تسمح باحياء الأمبراطوريات البائدة، خصوصاً في هذه المنطقة…

أمام ناظرينا نشهد السياسات البهلوانية التي غالباً ما تصب في مصلحة تلك القوى التي تتولى ادارة الكثير من الخيوط، والكثير من الرؤوس. كما لو أنها تمارس نوعاً من البلقنة المقنعة.

في هذا السياق، لا شيء في تاريخ العراق الحديث يشي بأن العراق انتج أدمغة ديبلوماسية استثنائية، أو بأنه أطلق مبادرة ديبلوماسية ما. غالباً، السياسات المتوترة والمعبأة التي أنهكت البلاد على مدى عقود من الزمن. هذا ما يحمل على التساؤل ما اذا كانت التداعيات الدراماتيكية للصراع السعودي ـ الايراني على العراق هي التي وراء التحرك الحالي أم أن ثمة جهة ما حثت الكاظمي على ذلك؟

المثير ما يتردد في بغداد حول ضوء أخضر أميركي في هذا الاتجاه من أجل ايجاد حل للتراجيديا اليمنية، كون ادارة جو بايدن في صدد اعادة ترتيب علاقاتها بدول المنطقة عقب الفوضى التي أحدثتها سياسات دونالد ترامب والتي كانت تنذر بانفجارات في أكثر من مكان.

العراق الدولة الوحيدة التي لها حدود مع كل من السعودية (أكثر من 800 كيلومتر) وايران (أكثر من 1400 كيلومتر). هذا ما يتيح له فرصة أكبر لفتح ثغرة ديبلوماسية في الجدار.

نسأل ديبلوماسياً عراقياً مخضرماً ما اذا كانت الخطوة العراقية تمهد لحوار سعودي ـ سوري ما دامت بلاده تتاخم البلدين أيضاً. رده أن الأجواء «صافية»، ويمكن أن تمهد لوضع أكثر من ملف على الطاولة.

الديبلوماسي أضاف ضاحكاً «لعلنا بحاجة الى استعادة ديبلوماسية هارون الرشيد الذي كان يبعث بالرسل، وبالهدايا، الى الملوك الآخرين. من بينهم شارلمان، وقد أهداه ساعة عجيبة قام الرهبان بتحطيمها لأن الشيطان موجود في داخلها».

عسى ألا يتسلل الشيطان الى المسعى العراقي، وهو الذي يختبىء، عادة، في التفاصيل…

Exit mobile version