عبادة اللدن -أساس ميديا
أعطى اجتماع المجلس الأعلى للدفاع في قصر بعبدا، أمس، شكلاً يوحي بأنّ هناك دولة تأخذ على محمل الجدّ أزمة إغلاق الأسواق الخليجية في وجه الفواكه والخضراوات اللبنانية، بغضّ النظر عن كون ما صدر عن الاجتماع هو “لا شيء”.
ماذا يمكن لدولة فاعلة ومقتدرة أن تفعل أكثر من أن تعقد اجتماعاً يضمّ رئيسيْ الجمهورية والحكومة (المستقيلة)، وسبع وزارات، من ضمنها جميع الوزارات السيادية، والمدّعي العام التمييزي وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية والجمارك؟
يمكن التغاضي عن أنّ الهيئة المجتمعة ليست حكومة ولا مجلساً أعلى للدفاع ولا مجلساً أعلى للجمارك، حتّى إنّها ليست مجلساً بلدياً، ولا يلزم بيانها وتكليفاتها أحداً. فالمشكلة ليست هنا، بل في كون المجتمعين لم يروا حقيقة الأزمة، ولم يطرحوها للنقاش.
لم يخطر ببالهم، مثلاً، أن يناقشوا ما يعنيه فرض “الحجر الأمني” على بلادٍ موبوءة أمنيّاً، اسمها لبنان. ليس لأنّ نقاطها الحدودية تخلو من أجهزة سكانر، وتلك هي النقطة الوحيدة التي استرعت اهتمام رئيس الجمهورية ميشال عون في الاجتماع، بل لأنّها دولة “فارطة”، تضيع نقاطها الحدودية الرسمية في بحر من المعابر السائبة أمام الميليشيات والعصابات والمهرّبين.
ذاك هو حجم الأزمة: حدود سائبة لدولة “فارطة”. وتلك أزمةٌ موضوعُها الأساس “حزب الله”، مهما تكن حدود علاقته بعصابات المخدّرات وملابساتها. فمنذ عشر سنوات، على الأقلّ، يتصرّف الحزب على اعتبار أنّ الحدود شأن سياديّ يخصّ دولته، ولا يسمح للدولة اللبنانية باجتياز خطوطه الحمر.
قبل ذلك، حمل اجتياح بيروت، في 7 أيّار 2008، عنواناً أساسياً هو رفض المسّ بهيمنته الأمنية على مطار رفيق الحريري الدولي. ومنذ ذلك الحين، بدأت هيمنة الحزب على المعابر تتكرّس. وتحوّل الحزب من ميليشيا محظيّة بغضّ الطرف الرسمي، إلى دولة تبتلع الدولة، وتجعل منها هيكلاً فارغاً.
وحين انخرط “حزب الله” علانيةً في الحرب السورية، قيل الكثير من جماعته عن تمزيق اتفاق “سايكس – بيكو”، فيما دفنت الدولة رأسها في الرمال لتنكر أنّها ترى قوافل الحزب العسكرية بين بلدين تجمع بينهما الهيمنة الإيرانية. وفُتحت معابر غير معلومة لزيارات قاسم سليماني وقادة الحشد الشعبي العراقي (بألويته ذات الولاء الإيراني)، وكوادر الحوثيّين وعناصرهم الوافدين إلى معسكرات التدريب.
هكذا فقدت الدولة سيطرتها على معابرها البريّة والجويّة والبحريّة، بالتلازم مع فقدانها السيادة في الداخل، لتصبح البلاد أشبه بمنطقة حرّة أمنيّة وعسكريّة لإيران.
ذاك هو المآل الطبيعي لتسيّب السيادة وتعدّد السلاح. فلم يعد ثمة ريبٌ بأنّ المخدّرات ذات المنشأ اللبناني تأتي من البؤر التي لا تتحرّك فيها الأجهزة الأمنيّة من دون تنسيق مسبق مع “حزب الله”. ناهيك عن التقارير الدامغة عن ضلوع عناصر في الحزب مباشرةً في التجارة القذرة، في أوروبا ودول الخليج ومصر، وصولاً إلى أميركا اللاتينية.
في المستوى الرسمي، يحلو لرئيس الجمهورية وفريقه أن يسوّق نكتة متذاكية عن المغايرة بين الشخصية الاعتبارية للدولة و”حزب الله”، بحروبه وقراره السياسي المشتقّ من طهران. ويظنّ أنّه بذلك يخلي مسؤولية الدولة، التي يرأسها، عمّا يدور داخل حدودها، وما يرِد إليها من عناصر الميليشيات، وما يخرج منها من سلاح وإرهاب ومخدّرات.
يبيّض عون كل ذلك بإرسال مستشاره سليم جريصاتي إلى السفارة السعودية والإلحاح في دعوة السفير الدمث وليد البخاري لزيارة قصر بعبدا، ويُسرَّب في اليوم التالي أنّ الاتفاق كاملٌ “على كلّ شيء”، لكنّه في الداخل لا يتجاوز حدود اللعبة التي أدخلته في معادلة الحكم بوصفه غطاءً مسيحيّاً لسلاح الحزب، لا أكثر.
يجمع عون أركان الدولة ولا يطرح للبحث التقاريرَ عن معسكرات تدريب الحوثيّين، ومن أيّ حدود سائبة دخلوا. لم يسأل من أيّ معبر سائب دخل الرمّان السوري إلى لبنان ليأخذ شهادة منشأ من الدولة “الفارطة”.
انتهت اللعبة. لم يعد في الإمكان بيع الوهم بإمكان قيام دولةٍ مكتملة السيادة مع تعدّد السلاح والقرار. ثمّة دولة يجب أن تتحمّل مسؤوليتها عمّا يُصدّر من داخل حدودها.
مشكلة الحدود السائبة لا يحلّها جهاز “سكانر”، بل تحتاج إلى قرار سياسي جدّي باستعادة الدولة سيادتها وحدودها، لتستعيد الاعتراف والاحترام.
بغير ذلك، يدخل لبنان زمن الحَجْر الأمنيّ، وتصبح حدوده السائبة مسألة دولية، تماماً كمشكلة القراصنة قبالة سواحل الصومال.