ناصر قنديل-البناء
– تتم القوات السورية اليوم ستة عشر عاماً على عودتها الى الديار، بعد تمركز لمدة مماثلة في لبنان، انقسم حوله اللبنانيّون، وبعيداً عن تقييم تلك الفترة وما لها وما عليها، وبعيداً عن الدخول في مناقشة اعتبارات قرار العودة الذي اتخذه الرئيس السوري بشار الأسد قبل تظاهرة 14 آذار بعشرين يوماً، وإصرار أصحابها على ادعاء بطولة فرض هذه العودة، السؤال الذي يجب على اللبنانيين الإجابة عنه ينحصر بنقطة واحدة، هل ثبت ما قاله لهم القادة الذين يحتفلون اليوم باعتبارهم صناع استقلال ودعاة بناء دولة ويتنافسون على هذه الصفة، عندما صوّروا لهم أن أزمة لبنان تختصر برحيل القوات السورية عنه؟ ومتى تحقق ذلك فسينتقل لبنان من ضفة إلى ضفة؟ فسورية تمارس الوصاية على الدولة، وهي بهذه الصفة سبب الفساد، وسورية تنزع قرار اللبنانيين الحر، وبذلك تحول دون بنائهم دولة سيّدة، وبنتيجة هاتين المقدّمتين فإن المطلوب هو تجميع اللبنانيين تحت شعار المطالبة بالخروج السوري من لبنان، والسعي للتقاطع مع الجهات الدولية والإقليمية صاحبة المصلحة بهذا الخروج لتشكيل جبهة دولية إقليمية في توقيت يناسب أصحابها، ومنحها فرصة الظهور بمظهر الداعم للسيادة اللبنانية، للعمل معاً على تحقيق هذا الهدف، الذي سيفتتح معه عهد السيادة والإصلاح، وبناء الدولة.
– بعد ستة عشر عاماً، من حق اللبنانيين أن يسألوا قادتهم ماذا فعلتم، وتعالوا نتفحص حدود السيادة التي رسمتم، ونتحقق من طبيعة الدولة التي بنيتم، ليس بهدف القول إن زمن الوجود السوري كان أفضل، وهو حكماً كذلك، ولا للقول إن الحل هو بعودة الدور السوري أو التمركز السوري، وسورية أبعد ما تكون، ولو تعافت غداً وطلب منها العالم كله ذلك غداً، لأن تعيد تلك التجربة المرة، التي أنهكت سياستها، وأفسدت الكثير من مؤسساتها، وكانت سبباً لترهّل الكثير من وحداتها العسكرية. التفحص المطلوب، مطلوب بخلفية لبنانية صرفة، لنعلم هل كانوا معنا صادقين بادعاءاتهم؟ وهل كانوا على سوية سياسية علمية تقارب مشكلاتنا بواقعية وروح وطنية وإصلاحيّة، ونجحوا في تشخيص المشكلة اللبنانية، وتحديد نقطة الثقل في أي علاج؟ وهل أدى ما يعتبرونه نجاحهم، بإخراج سورية، وهو أقرب ليكون امتحانهم بعد الخروج السوري، لتحقيق ما وعدوا بأنه سيتحقق مع ساعة الخروج السوري من لبنان؟
– خلال ستة عشر عاماً، منها عشر سنوات، كانت سورية خلالها تحت ضغط مواجهة حرب شاركت فيها عشرات الدول ومئات آلاف المسلحين، ماذا أنجز قادة معركة الوجود السوري في لبنان، من قرنة شهوان الى مجلس المطارنة، إلى 14 آذار التي ينتمي أغلبها الى من كانوا رموزاً في الدولة التي وصفوها بدولة الوصاية، وضمناً طبعاً التيار الوطني الحر، الذي يستطيع أن يقدّم الكثير من الذرائع من نوع التركيبة السياسية التي حالت دونه ودون بناء الدولة السيّدة ودولة الإصلاح، لكن ما نناقشه هنا ليس العجز والفشل، ولا صدق النيات، فجهنم مبلّطة بأصحاب النيات الحسنة، كما يقول المثل البريطاني، ولا نحن بصدد توزيع مسؤولية تعطيل بناء الدولة، ولا مَن باع واشترى مع الخارج على حساب السيادة، وحصر معركتها بمواجهة سورية، وتجاهل خطر العدوان المستمرّ لجيش الاحتلال وتدخلات السفراء، والتيار أقل هؤلاء مسؤوليّة، لكن ما نناقشه هو صحة التشخيص وحسن القراءة السياسية. وهنا يصير إيراد الذرائع مصدر إدانة وليس سبب براءة، لأنه يكشف خطأ التشخيص وسوء القراءة. فالقول إن الطبقة السياسية فاسدة وتستجلب التدخلات الخارجية اليوم يصحّ للأمس، وهو يعاكس القول بأن المشكلة كانت في الوجود والدور السوري. والهدف هو الإجابة عن هذا السؤال، مَن يجرؤ اليوم على مصارحة اللبنانيين والقول، إن العداء لسورية وإدعاء خوض معركة سيادة لبناء الدولة بوجهها، كانا مراهقة تحمل في طياتها جهلاً بأسباب الأزمات اللبنانية المتعاقبة، التي لا يفسرها لا تدخل عنجر ولا تدخل عوكر ولا تدخل قصر الصنوبر، ولا ملف التهريب ولا تشارك الفساد الذي حلّ مكانه تشارك فساد آخر. وفي ظل المبادرة الفرنسيّة يتحضر ملف تشارك فساد جديد، فالقضية كما كتبنا عام 2002 وفي جريدة النهار، ليست في تلازم المسارين بل في تلازم الفسادين، وهو تلازم يتكفل القادة السياسيون في لبنان بعرضه على كل وافد صاعد، فهنا الوردة ولترقص هنا، كما يقول غوته.
– وبالمقابل للذين يصنعون للخارج معركة بديلة تحت العناوين ذاتها، فبدلاً من سورية التي تعاديها واشنطن ليس حباً بلبنان بل طلباً لرضوخها لطلبات ومصالح كيان الاحتلال، واستعملت بعض اللبنانيين للتعبئة ضدّها والضغط عليها، وهم اليوم يضعون حزب الله والمقاومة في المكان الذي امتلأت به خطاباتهم عن سورية، ويحملونه مسؤولية ضياع السيادة، وانتشار وتفشي الفساد، وصولاً لمسؤولية الانهيار. واللعبة هي ذاتها، تخديم الخارج لكذبة جديدة عن سيادة ودولة، سيحكمهما تلازم الفساد إذا قيّض لهم إضعاف حزب الله والنيل من مصادر قوته، كما حدث بعد عودة القوات السورية الى بلادها، فلنجرؤ لمرة على مواجهة الحقيقة، ومضمونها أن حروب السيادة هي حروب استتباع جديد، وأن حروب الإصلاح هي حروب فساد جديد، وأن جوهر المشكلة كان ولا يزال منذ قرن، يوم ولد لبنان الكبير، مضمونها أننا لم ننضج بعد كوطن وكيان، ولا سيادة ولا دولة من دون وطن.