يمكن القول، إن التسريب الصوتي للمقابلة التي أجراها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع الصحافي سعيد ليلاز، يشبه في طبيعته العملية الأمنية التي قام بها جهاز الموساد الإسرائيلي قبل نحو سنتين، ونجاحه في سرقة آلاف الوثائق السرية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، وأدت في نتائجها الأولية إلى تسهيل تحديد أهمية الدور الذي يقوم به الجنرال محسن فخري زادة واغتياله لاحقاً.
ولا بد من الإشارة إلى أن المقابلة جرت في إطار مشروع تسجيل شهادات المسؤولين الإيرانيين، حول العمل الحكومي ودورهم في رسم السياسات العامة للنظام، التي يقوم بها مركز الدارسات الاستراتيجية في رئاسة الجمهورية، ويشرف عليه حسام الدين آِشنا مستشار الرئيس حسن روحاني والمساعد الأسبق لوزير الاستخبارات “اطلاعات”.
من يستمع إلى الساعات الثلاث للحوار الذي دار بين ظريف وليلاز، يدرك مدى الثقة التي سمحت للوزير الحديث من دون قفازات عن ملفات حساسة تمس الأمن القومي الإيراني، وعلاقة أركان النظام مع بعضهم بعضاً، والآليات التي يتم فيها اتخاذ القرار، خصوصاً أن ظريف أكد خلال كلامه أن هذه الصراحة لم يكن ليتحدث بها لو لم تكن هذه المقابلة غير مخصصة للنشر، باعتبارها وثيقة سرية وداخلية في إطار تسجيل شهادات بعض المسؤولين في موقع القرار. الأمر الذي يطرح سؤالاً مباشراً وواضحاً عن حجم الخرق الموجود والترهل الأمني الذي يتفشى في المراكز الحساسة في الدولة والنظام، الذي سمح لمثل هذه الوثيقة المصنفة “سرية” بالوصول إلى جهات معادية، ومنها إلى مؤسسة إعلامية معارضة هي “تلفزيون إيران انترناشيونال” الممولة من أكثر الدول الإقليمية المصنفة في خانة الخصم، لا بل العدو للنظام الإيراني.
أهمية ما قاله ظريف في اللقاء ليست في تلك الأمور المتعلقة بكواليس عمل الدبلوماسية الإيرانية والتفاوض الإيراني الأميركي وحسب، بل أيضاً ما يتعلق بطبيعة النظام ورؤيته وتعامله مع الموضوع الدبلوماسي. ولعل أخطر ما كشفه ظريف، على الرغم من إصرار الخارجية على أن ما تسرب لا يعد سوى اجتزاءات من مقابلة مطولة تجاوزت الساعات السبع، هو القراءة المنهجية التي قوم فيها عمل النظام الدبلوماسي والسياسي، وما فيه من إشارات واضحة عن تجذر “عسكرة النظام” منذ عام 1980، وأن سيطرة المؤسسة العسكرية والأمنية على الدبلوماسية الإيرانية لا تعد مسألة طارئة، بل تعود في جذورها إلى ما بعد احتلال السفارة الأميركية في طهران، إذ تغلّب البعد الأمني على العمل الدبلوماسي في الثورة والدولة.
وأوضح ظريف كثيراً عن أزمة النظام البنيوية في الانتقال الصعب والمتعثر من مفهوم الثورة إلى مفهوم الدولة والمؤسسة، وأن كل الجهود التي بذلت على هذا الصعيد لم تحقق سوى نجاحات محدودة بقيت على الهامش مرهونة بالمرحلة الزمنية والشخصية التي كانت على رأس السلطة التنفيذية. وهو ما دفعه إلى تأكيد وتكرار معادلة تصب في إطار الجهود التي بذلها مع آخرين لقطع الطريق على عسكرة الدولة والنظام والدبلوماسية، وأن كل الجهود التي بذلتها إيران على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية، كانت في خدمة الساحة العسكرية والبعد الأمني، ولم يحدث أن كانت المؤسستان العسكرية والأمنية على استعداد للتضحية بمكتسباتها الميدانية لمصلحة العمل الدبلوماسي والسياسي. ما جعل الدبلوماسية الإيرانية، والدولة هي الشريك المتأثر، وليس المؤثر في صناعة الحدث أو القرار السياسي الاستراتيجي، بحيث فرض على الحكومة أن تعمل على تنسيق وترتيب مواقفها بما تقتضيه ضرورات النشاط الأمني والعسكري الإيراني في الإقليم ومنطقة غرب آسيا. بالتالي، تنظيم علاقاتها الدولية على عقارب الساحة العسكرية والأمنية، من دون أن يكون لها رأي في أي من هذه النشاطات أو القدرة على التنسيق أو استخدام الدور الميداني لخدمة أهداف سياسية.
ما قاله ظريف بشكل صريح وبأسلوب غير مباشر، هو حجم المخاوف التي تهدد مستقبل الدولة والنظام جراء هيمنة العقلية الأمنية على العمل السياسي والدبلوماسي، التي تركت أثرها على المفاوضات التي خاضتها إيران مع المجتمع الدولي قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) وبعده، واحتلال أفغانستان مروراً باحتلال العراق وصولاً إلى البرنامج النووي، خصوصاً أن البعد الأمني والعسكري انتقل إلى مرحلة الاستحواذ على التعاملات الإيرانية في الملفات الإقليمية بعد مرحلة من التنسيق الإيجابي بين الجهاز الدبلوماسي والمؤسسة العسكرية، والنتائج المشجعة التي نتجت منها في المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة قبل الهجوم على أفغانستان في 2001 واحتلال العراق 2003.
وهنا، وإن كان ظريف لم يقدم جديداً عن أصل العلاقة التي تربط الإدارة الدبلوماسية مع قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، إلا أنه أشار بشكل غير مباشر إلى حجم السيطرة الأمنية التي مارستها المؤسسة العسكرية على التوجهات السياسية، إذ جعلت مصالح العمل الميداني العسكري مقدمة على المصالح السياسية للدولة والنظام. ما ضيق هامش المناورة وحمل إيران خسائر سياسية واستراتيجية كان يمكن تجنبها أو استثمارها بشكل أكثر إيجابية وبأقل قدر من الأثمان. واعتبر أن الدخول العسكري الإيراني المباشر وإرسال قوات قتالية إلى سوريا أضر كثيراً بالموقف الإيراني، خصوصاً أن حجم الخسائر البشرية إضافة إلى السياسية، كانت كبيرة بحيث لا يجرؤ أحد على الحديث عنها.
وخلافاً لما هو سائد، وعلى الرغم من المهمة التي يقوم بها في ترتيب العلاقة الاستراتيجية بين إيران من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، قدم ظريف قراءة مختلفة عن العلاقة الإيرانية مع هاتين الدولتين، متهماً روسيا بالدرجة الأولى بممارسة دور المعرقل في المفاوضات النووية خدمة لمصالحها التي كانت تدفع إلى استمرار التوتر الإيراني الأميركي، لمنع واشنطن من التفرغ لمحاصرتها أو التعامل مع طموحاتها وطموحات الصين التوسعية.
من بوابة السعي لتحقيق المصالح القومية الإيرانية، يتمسك ظريف بضرورة تطوير العلاقة مع هذين البلدين، في الوقت الذي اعتبر فيه أن روسيا استطاعت استغلال إيران لخدمة مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، والدخول الروسي إلى سوريا جاء على حساب المصالح الإيرانية التي بدأت قواتها مع حلفائها في قلب المعادلة لمصلحة حكومة دمشق، كاشفاً عن أن الزيارة التي قام بها سليماني إلى موسكو واللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتن جاء بناء على رغبة روسية تهدف إلى قطع الطريق على تفرد إيران بالإنجاز السوري.
من المتوقع أن يكون لما قاله ظريف في التسجيل المسرب، تداعيات كثيرة في الأيام المقبلة، خصوصاً على معركة السباق الرئاسي والتحفز الكبير الذي يبديه جنرالات من المؤسسة العسكرية في الوصول إلى هذا الموقع، بحيث قد تعيد خلط الأوراق وتدفع الأطراف المعارضة لعسكرة رئاسة الجمهورية لاستنفار جهودهم وقواعدهم الشعبية لفرض واقع مختلف يقطع الطريق على طموحات المؤسسة العسكرية، خصوصاً أن المرحلة المقبلة التي حددها ظريف بستة أشهر ستكون مصيرية على إيران والمنطقة. بالتالي، تستدعي تعاملاً إيرانياً مختلفاً مع ملفاتها الداخلية والإقليمية والدولية.