نادية عصام حرحش
منذ بدء ماراثون الانتخابات وخرجت كل الملفات الفلسطينية الى السطح. كجنيزة [1] مكتشفة تعود لأزمنة بعيدة. وكحال الجنيزات يخرج منها المهم والكثير من اللا مهم. مع الأيام تحولت الجنيزات الى فرصة للتخلص من كل ما هو مكتوب لربات البيوت وارساله الى الجنيزة، فلم تعد تقتصر على الوثائق المقدسة الطابع ولكن كل ما ذكر عليه اسم الله او قريب منه. ففاتورة وجدت طريقها الى الجنيزة، وخربشات طفل في مدرسة، ونتيجة امتحان درس دين او تاريخ، ومخاطبة عشيق لمعشوقته وفاتورة بقال مطالبا بها دين.
سلام فياض أكثر الأسماء التي طفت فترته الي سطح الجنيزة ليظهر الرجل سببا للدمار الفلسطيني. فهو الذي جلب البنوك والقروض، اقحمنا في المديونية، خرب بيوت الموظفين واقالهم سنة ٢٠٠٥، جلب دايتون، فرضه الامريكان على عرفات، كرس أوسلو واتفاقية باريس والسلام الاقتصادي، واتلف عناقيد الاقتصاد.
يكشف استدعاء تلك الفترة بهذه الطريقة الساذجة عن ضعف ذاكرة الشعوب، حيث يسهل اسقاط شق من الاحداث لينتشر في الارجاء كزوابع غبار يحدثها حافر حصان في رمل صحراء، وتتبدد مع تواريه عن الانظار.
أدخلنا الرجل الى فقاعة صدقنا انها دولة، حين ذهب حتى تلاشت هذه الفقاعة، صحونا على مستنقع الواقع، بقيت الاسئلة حول ما اذا كانت المشكلة في الفقاعة ام الواقع، وان كانت فقاعته وهما ام محاولة لتحسين الاوضاع.
تناسل الاسئلة يملي استحضار سياقات الاحداث، قدمت اوسلو لنا باعتبارها واحدة من حلقات حلم بناء وطن يرجع اليه ابناءه، فتحنا قلوبنا وبيوتنا وقدمنا حياتنا للقادمين المحررين من المنفى، عرفات القائد الرمز الابدي جاء الينا بذلك الانجاز الافتراضي.
لم تأت سنوات أوسلو الأولى بغير ما هو مريب. تحولت البلد الى تجمعات للقادمين الجدد المحررين، استثمارات وفلل وقصور، تغيير خلخل في ارجاء المكان والانسان على هذه الارض، وجدنا أنفسنا جزء منهم، صرنا أبناء أوسلو المحررين،
ولم نسمع لتحذيرات الاخرين.
تجاهلنا ادوارد سعيد، وحيّدنا حيدر عبد الشافي، اندفعنا نحو العلم الفلسطيني الذي رفرف للتو في كل مكان واقترب من القدس، تحول الحلم الى علم ومرسوم رئاسي وقصر وسيادة افراد صاروا تباعا بحجم الوطن.
في كل لحظة اعترضنا او عبرنا عن قلقنا او تساءلنا كانت عبارة “نحن في مرحلة التحرر” فكل التجاوزات عابرة، حتى صارت هذه التجاوزات القاعدة وما دونها استثناء.
ما يجري على الساحة الفلسطينية يعيد الى ذهني تلك السنوات التي سبقت حصار عرفات في المقاطعة، كان قبلها في أصعب احواله شعبيا، استطلاعات الرأي تؤكد انخفاض شعبيته الى اقل من ٢٠ ٪، الناس مستاءة من مخرجات أوسلو ، فساد السلطة يحصد خيرات البلد ومواطنيها.
كان حصاره والانتفاضة مخرجا من متاهته، اعاد التعاطف معه، ساعد على نسيان ضياع حلم تم اختطافه ليتحول الوطن الى مزارع اقطاعية يسيطر عليها القائمون على السلطة، لا يغيب عنا انفضاض زمرة المقربين منه، وتحول المتآمرين عليه الى اصحاب سلطة.
لا تختلف الازمة التي يعاني منها محمود عباس اليوم عن التي عاشها عرفات قبله. لقلق أبو مازن أوجه كثيرة، هو يعلم جيدا كيف تحاك المؤامرات في صفوف صفوته، لا يأمن المحيطين به، يعي ان المنظومة التي اوصلته الى سدة السلطة، ذاتها التي قد تنهيه اليوم.
لأنه ابن المنظومة ويعرف كيف يتعلم من الدروس. يحاول ان يعيد التجربة بالطريقة العرفاتية، بمعنى آخر يحتاج الى انتفاضة تقلب الموازين، تشتت التركيز وتتيح له استعادة خيوط اللعبة، لكن الهتافات التي اطلقت ضده تؤكد انه لن يستطيع اعادة التاريخ ادراجه ليشكل حالة تعاطف شعبي معه.
الكتاب صادر عن معهد بروكنجز بعنوان “إصلاح القطاع العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دروس التجربة لمنطقة تمر بمرحلة انتقالية” (كانون الثاني ٢٠٢٠) كانت التجربة الفلسطينية في اصلاح الإدارة المالية العامة احدى حالات الدراسة. [2] وتناول البحث هنا تجربة الدكتور سلام فياض عند استلامه وزارة المالية في حكومة السلطة الفلسطينية سنة ٢٠٠٢.
كانت الحاجة الى الترجمة ملحة ربما، وقررت عرضها باستفاضة لما تحمله من إجابات وتشرح تفاصيل مرحلة عشنا تفاصيلها وشغلتنا عن مأساوية الاوضاع التي نمر بها.
يعرض الباحث الظروف المحيطة بذلك التعيين والتحديات المركبة التي واجهها سلام فياض من اجل اخراج السلطة الفلسطينية من أزمتها الاقتصادية وتأسيس ثقة في نوعية الإدارة المالية ويقول:
ان “السلطة الفلسطينية كانت تواجه ازمة مصيرية، حيث ساهمت الانتفاضة الثانية في انخفاض حاد في العجلة الاقتصادية، ارتفاع مستوى الفقر والبطالة في كل من الضفة وغزة، بالإضافة الى عدم رضى المجتمع الدولي عن السلطة الفلسطينية بسبب فشل أوسلو، مما أدى الى تهميش الرئيس عرفات واثار تحفظات على اشرافه على موارد السلطة في ظل مطالبة بإصلاح مؤسسات السلطة وممارساتها.
في الفترة من ١٩٩٣ الى ٢٠٠٢ كانت أوسلو قد وصلت الى حالة من الإحباط، بقي الاقتصاد الفلسطيني معتمدا بقوه على إسرائيل، واستمرت إسرائيل في تحصيل الإيرادات الفلسطينية التي كانت تشكل ثلثي إيرادات السلطة. شكل عودة الفلسطينيين من الخارج جزء من البيروقراطية، ففي سنة ١٩٩٦كان ٨٥ ٪ من الموظفين المدنيين والامنيين المدرجين على قوائم موظفي السلطة قد جاءوا من الإدارة المدنية ومنظمة التحرير، بالإضافة الى ذلك لم يكن للسلطة الفلسطينية سلطة على الموارد والحدود، لم تكن هناك دولة صاحبة سيادة، بقي الصراع على الأرض، استمر التوتر بين العقيدة الثورية والتركيز على بناء دولة ديمقراطية، وامن البعض ان الإصلاح والتحرر الوطني يمكن ان يأتيا معا فيما امن اخرون ان دولة صاحبة إدارة جيدة او سلطة كفؤة ستقود تدريجيا الى سيادة كاملة.
يقول الكاتب انه تم إشراك المعارضة السياسية في بيروقراطية السلطة الفلسطينية، استخدمت أساليب المحسوبية لبناء الولاءات السياسية، تم توسيع المناصب القيادية الرسمية إلى هيئات عامة مختلفة، استغلت السلطة الفلسطينية الغموض في اتفاقيات أوسلو المؤقتة لتأمين سلطة للسلطة التنفيذية على فروع الحكومة بما في ذلك المجلس التشريعي الفلسطيني، لم يرغب القادة الأساسيون في الخضوع لرقابة المجلس التشريعي، وبذلك تجاهلوا التشريعات التي تعزز المساءلة.
بالإضافة إلى الفوائد الشخصية، اضطر قادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية أيضًا إلى الاستفادة من الموارد المالية من أجل بقائهم السياسي، وساهم جزء من عائدات الأسهم والاستثمارات في تحقيق هذه الغاية، كما تم استخدام الأموال المخصصة للطوارئ خارج الميزانية لشراء الولاءات السياسية الداخلية، وكان التعتيم مفيدا في تكوين ونشر الموارد المالية لهذه الأغراض السياسية.[3]
لم يتم توحيد عائدات السلطة الفلسطينية في حساب واحد، ولم تكن خاضعة لسيطرة وزارة المالية، تم توجيه ضرائب البترول والتبغ والكحول إلى حسابات خارجية، تحويل الضرائب البترولية مباشرة إلى حساب خاص في أحد البنوك الإسرائيلية، كان يسيطر عليه الرئيس عرفات ومستشاره الاقتصادي محمد رشيد.
بالإضافة إلى ذلك تمت إدارة الأنشطة التجارية للسلطة الفلسطينية بشكل سيء، استحوذت السلطة الفلسطينية على أسهم في العديد من المؤسسات التجارية التي كانت تابعة لشركة قابضة تسمى “شركة الخدمات التجارية الفلسطينية”، بعد استجواب عام في عام ١٩٩٧ وجد المجلس التشريعي أن ملكية الحكومة الجزئية أو الكاملة للعديد من الشركات لم تخضع للمراقبة من قبل المعهد العام للتدقيق، ولم يتم تضمين إيراداتها في ميزانية الحكومة، وأدى عدم وجود الميزانيات العمومية أو التقارير السنوية المنشورة إلى غياب المعلومات عن الأرباح المحققة في الفترة من ١٩٩٥ إلى ٢٠٠٠.
لعدة سنوات مباشرة بعد اتفاقيات أوسلو، عانى تطوير الميزانية من نقاط ضعف تقنية كبيرة. كان هناك تنسيق ضعيف بين المانحين والسلطة الفلسطينية، مما أدى إلى تكامل سطحي لنفقات الاستثمار العام في الميزانية. كانت وزارة التخطيط ووزارة المالية من الجهات الموقعة على جميع مشاريع التنمية التي يمولها المانحون، لكن مشاركة هذين الكيانين محدودة في اختيار المشاريع. غالبا ما يتعامل المانحون بشكل مباشر مع الوزارات التنفيذية ومؤسسات السلطة الفلسطينية والهيئات الحكومية المحلية، ولم تكن هناك وكالة مركزية لمراقبة جميع المشاريع. لم يتم تقييم المشاريع في سياق إطار أوسع للاقتصاد الكلي وفشلت في حساب التكاليف المتكررة المستقبلية وقدرة خدمة الدين. ونتيجة لذلك، لم تعكس ميزانية السلطة الفلسطينية الاستثمار العام الممول من المانحين.
بعد الطلبات المتكررة من المجلس التشريعي، والدول المانحة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وافقت السلطة الفلسطينية على تقديم ميزانية في عام ١٩٩٦. لكن عملية إعداد الميزانية كانت لها جوانب كثيرة، لم يتم دمج مقترحات الموازنة في أي إطار عمل شامل، لم يكن من ممكنا إجراء مناقشات جادة على مستوى مجلس الوزراء حول مختلف قضايا السياسة المالية أو انعكاساتها على المدى المتوسط. علاوة على ذلك، لم يتم الإفصاح عن أي بيانات مالية تنظيمية للجمهور أو للمجلس التشريعي. ونتيجة لذلك، لم يكن هناك إشراف مؤيد أو مشاورات واسعة النطاق في عملية الميزانية.
احتفظ الرئيس عرفات بسلطة تقديرية شخصية كبيرة في الإنفاق، ولم يكن لوزير المالية سوى سيطرة جزئية. كان هناك العديد من مراكز الإنفاق في الضفة الغربية وغزة. إصدار شيكات الخزينة والتحويلات دون موافقة الوزير. كان الوزراء المباشرون يفرطون في إنفاق ميزانياتهم بشكل روتيني، وكانت أنظمة التدقيق الداخلي والرقابة على المدفوعات ضعيفة للغاية. تم دفع رواتب أفراد الأمن نقدًا بدلاً من التحويلات المصرفية، مما فتح النظام لإساءة استخدام كبيرة.
وساهمت الإدارة غير الكافية وضوابط الرواتب في التوظيف غير المنضبط في الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية، مما أدى إلى فاتورة أجور غير مستدامة.[4]بحلول عام ١٩٩٩، شكلت فاتورة أجور السلطة الفلسطينية ١٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي و٥٥٪ من النفقات الجارية بحلول عام ٢٠٠٢، وزادت إلى ٧٠٪ من النفقات الجارية. وأدى ذلك إلى عدم كفاية الموارد للإنفاق غير المتعلق بالأجور، إلى جانب الفواتير والديون غير المسددة للقطاع الخاص.
أدى عدم وجود أنظمة مناسبة لإدارة النقد، إلى جانب ارتفاع مستويات الإنفاق التقديري، إلى ديون كبيرة ومدفوعات تفضيلية للموردين وفرص للفساد. وبحلول مارس ٢٠٠٠، وصلت الديون إلى ٣٧٠ مليون دولار، معظمها على شكل فواتير غير مدفوعة للموردين. ومع ذلك، تواصل وزارة المالية إصدار الشيكات حتى بدون الموارد الكافية لتغطيتها. عندما ذهب الموردون إلى صرف الشيكات الصادرة عن خزانتهم، كان للبنوك التجارية حرية التصرف في تحديد الشيكات التي سيتم
مقاصتها. وكانت هناك مخاوف من أن مسؤولي البنك وكذلك بعض المسؤولين الماليين يتلقون رشاوي لهذه المعاملات.
ويقول الكاتب عن بدء عملية الاصلاح انه في أكثر اللحظات غير المتوقعة خلال أحلك أيام الانتفاضة الثانية في ربيع ٢٠٠٢ دعا عرفات إلى إجراء إصلاحات في عدة مجالات، بما في ذلك المالية العامة. يمكن أن يُعزى ذلك إلى ديناميكيتين رئيسيتين: أولاً، ضعف عرفات وقيادة السلطة الفلسطينية بسبب الأداء الضعيف للسلطة الفلسطينية وفشل عملية السلام في تحقيق مكاسب. وثانياً، دخول الاقتصاد في حالة ركود عام ٢٠٠٠ حيث أدت عمليات الإغلاق إلى تراجع النشاط الاقتصادي الداخلي، حيث انخفض إجمالي العمالة بنسبة ٣٢ في المائة من الربع الثالث من عام ٢٠٠٠ إلى الربع الثالث من عام ٢٠٠٢
كما زادت مستويات الفقر بشكل ملحوظ. قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، كان ٢١ في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر البالغ ٢.١٠ دولار في اليوم. وقد ارتفعت هذه النسبة إلى ٦٠٪ بحلول كانون الأول ٢٠٠٢. بالإضافة إلى ذلك، عانت السلطة الفلسطينية من وضعها المالي. أدى تحويل الضرائب غير المباشرة وإيرادات المشاريع التجارية من الموازنة العامة، وفاتورة الأجور غير المنضبطة، إلى عجز نقدي كبير.
في كانون الثاني ٢٠٠١، أوقفت إسرائيل تحويل عائدات ضريبة المقاصة التي تم تحصيلها نيابة عن السلطة الفلسطينية، والتي تمثل ما يقرب من ثلثي إيرادات السلطة الفلسطينية. كما انخفضت تبرعات جامعة الدول العربية للسلطة الفلسطينية بمقدار النصف.
بالإضافة إلى ذلك، كانت المعارضة السياسية مزعجة. بحلول أواخر التسعينيات، كان عرفات قد بدأ يواجه تحديات داخلية من داخل حركة فتح التي ينتمي إليها. كان أساس هذه القضايا الادعاء بأن القيادة الفلسطينية فشلت في التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا الوضع النهائي. مع الانتفاضة الثانية، بدأ ميزان القوى في التحول من الحرس القديم إلى الناشطين الشباب. اكتسبت مجموعات المعارضة السلطة من خلال الشرعية الشعبية، وأصبح الفلسطينيون يعارضون بشكل متزايد أسلوب السلطة الفلسطينية في الحكم وشعروا بالحاجة إلى الصلاح. لم تركز هذه الدعوات للإصلاح على المسائل التقنية البحتة المتعلقة بالإدارة. بدلاً من ذلك، كانت هناك دعوة أوسع لإنشاء قيادة ومؤسسات أكثر خضوعاً للمساءلة يمكن أن تقود الحركة الوطنية.
في نيسان من ذلك العام، حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي المقاطعة في رام الله حيث يقيم الرئيس عرفات. على إثر ذلك وفي خضم تلك العزلة طالب المجلس الثوري في حركة فتح اللجنة المركزية، المجلس التشريعي وبعض من مستشاري عرفات بالتغيير. وترتب على ذلك دعوة من المجلس التشريعي لتشكيل حكومة جديدة خلال ٤٥ يوم والتحضير لانتخابات خلال ٦ أشهر.
في حزيران من تلك السنة، عين عرفات حكومة جديدة ضمت سلام فياض وزيراً لماليتها. تحركت عجل الإصلاح بسرعة، وفي منتصف ذلك الشهر وافق المجلس التشريعي على خطة المئة يوم للحكومة الجديدة. وفي كانون الثاني من ٢٠٠٣، تشكلت سكرتاريا مجلس الإصلاح الوزاري. كما أنشأ المجتمع الدولي بمشاركة ممثلين عن الرباعية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، اليابان، والنرويج فريق عمل دولي للإصلاح الفلسطيني من اجل المساعدة في وضع خطة شاملة.[5]
كان من شأن تعيين محمود عباس رئيسا للوزراء توسيع قاعدة التدخلات في قطاعات الإصلاح، فأسس كذلك لجنة الإصلاح الوطنية التي تكونت من ٢٥ عضوا من المجلس التشريعي، أكاديميين، قادة مجتمع مدني، ورجال اعمال. ولكن تعثر العمل بين أعضاء لجنة الإصلاح الوطني والسكرتاريا. كان هناك مقاومة سياسية للإصلاح حتى من اعلى مستويات القيادة التي اثرت سلبيا على عمل هذه اللجان. وبحلول ٢٠٠٥، استقال العديد من أعضاء اللجنة وتوقفت عن الاجتماع تدريجيا.
بينما كان فياض شخصية رئيسية في مناصرة الإصلاحات، ظل دور الرئيس السابق عرفات مهماً. على الرغم من تعرض عرفات لضغوط كبيرة لنقل السلطة التنفيذية استمر في ممارسة نفوذ سياسي كبير.
تم جلب فياض لخلفيته التكنوقراطية وللمصداقية التي يتمتع بها مع المانحين والمجتمع الدولي، ومع ذلك، لم يتمتع بتفويض سياسي واسع أو دعم قوي من مؤسسة السلطة الفلسطينية.
أثر هذا السياق بشدة على الطريقة التي اقترب بها فياض من الإصلاحات. كانت استراتيجيته الأساسية تبني نهج تقني، مع التركيز على المفاهيم والهياكل المطلوبة لنظام سليم. تجنب المواجهة المباشرة إلى أقصى حد ممكن وتبنى نهج أكثر تصالحية. لم يركز على اجتثاث الأفراد الفاسدين أو تحدي نزاهة البيروقراطيين الحاليين. وضع جهوده الإصلاحية كجزء من عملية بناء الدولة. وبذلك، نجح في حشد الدعم العام حتى لأكثر الإصلاحات التقنية.
كان فياض مختلفا عن قادة السلطة الفلسطينية السابقين. لم يكن ناشطاً سياسياً في منظمة التحرير الفلسطينية أو المناطق، ولم يكن مرتبطًا بأي من الأحزاب السياسية الرئيسية. ولد في الضفة الغربية، وتلقى تعليمه في الأردن ولبنان والولايات المتحدة. شغل منصب ممثل صندوق النقد الدولي في الضفة الغربية وغزة من عام ١٩٩٥ إلى عام ٢٠٠١. وبصفته تكنوقراطيًا يتمتع بمعرفة وثيقة بالشؤون المالية للسلطة الفلسطينية، فقد اكتسب سمعة احترافًا وأسلوبًا جديا له في إنجاز المهمة.[6]
بالتزامن مع ذلك، كانت هناك تحديات سياسية داخلية شاملة كان ينظر إلى عرفات وغيره من قادة السلطة الفلسطينية على أنهم يتحركون ببطء شديد في الإصلاح. أدى ذلك إلى قيام المجلس التشريعي بإجراء اقتراح بحجب الثقة في ايلول ٢٠٠٣، مما دفع الحكومة، وفي اذار ٢٠٠٣الى تعيين عباس رئيسًا للوزراء. ومع ذلك، أدت التوترات القوية بين رئيس الوزراء والرئيس عرفات في نهاية المطاف إلى إجبار عباس على الاستقالة في ايلول ٢٠٠٣، وحل محله احمد قريع .
بينما دفع فياض خلال توليه رئاسة الحكومة أجندة إصلاح الإدارة المالية العامة إلى أبعد مما كان كثيرون يجرؤون على الأمل، ظهرت بحلول عام 2005 مجموعة من الديناميكيات في إبطاء تقدمه. كان الوضع السياسي والاقتصادي الأوسع يتدهور مع اقتراب انتخابات المجلس التشريعي لعام ٢٠٠٦، أصبحت قيادة فتح يائسة. بدأوا في اللجوء إلى سلسلة من الإجراءات الشعوبية لحشد التأييد بين الجماهير الفلسطينية الأساسية. أدرك فياض أن مثل هذه الإجراءات كانت غير مستدامة مالياً وتهدد بتنفير مجتمع المانحين، ومع ذلك كان غير قادر على إقناع زملائه داخل الحكومة بالمخاطر المالية التي تلوح في الأفق.[7]
كانت السيطرة على قطاع الأمن الأكثر صعوبة، وكان نجاح احتواء فاتورة الأجور مرهونا بشكل كبير بإصلاحات أوسع لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، لكن هذا لم يتحرك إلى الأمام بشكل كبير. وخلصت فرقة العمل المستقلة التي ترصد التقدم المحرز في الإصلاحات إلى أن موجة أولية من الإجراءات لم تؤد إلى عملية إصلاح مستدامة.[8]
في المقابل عرض البحث تحديات لم يستطع فياض مواجهتها على الرغم من الإصلاحات التي دافع عنها من عام ٢٠٠٢ إلى عام ٢٠٠٦ كانت ناجحة إلى حد كبير، إلا أنها لم تفعل ما يكفي لتعزيز الرقابة العامة وربط ميزانية التنمية بالأولويات الوطنية بشكل أفضل.[9]
[1] الجنيزة هي مستودعات مؤقتة مخصصة لتخزين الكتب والأوراق العبرية البالية حول الموضوعات الدينية قبل الدفن المناسب فيال المقبرة، ويُحظر التخلص من الكتابات التي تحتوي على اسم الله. بما أن الرسائل الشخصية والعقود القانونية قد تفتح بدعاء من الله، فإن محتويات genizot لم تقتصر على المواد الدينية؛ في الممارسة العملية، احتوت أيضًا على كتابات ذات طبيعة علمانية، مع أو بدون الاحتجاج الافتتاحي المعتاد، بالإضافة إلى كتابات باللغات اليهودية الأخرى التي تستخدم الأبجدية العبرية (اللغات اليهودية العربية، اليهودية-الفارسية، اليهودية-الإسبانية، واليديشية).
الجنيزة عادة ما توجد ي العلية أو الطابق السفلي من كنيس يهودي، ولكن يمكن أن تكون أيضًا في الجدران أو مدفونة تحت الأرض قد تكون موجودة أيضًا في مقابر
[2] “إصلاح القطاع العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دروس التجربة لمنطقة تمر بمرحلة انتقالية”، حرره كل من روبرت بيشيل رئيس مركز الممارسات الحكومية في البنك الدولي. شغل سابقًا منصب مدير السياسات في مكتب رئيس الوزراء الكويتي، وطارق يوسف مدير مركز بروكنجز الدوحة. كما شغل سابقًا منصب العميد المؤسس لكلية دبي للإدارة الحكومية. وقدم اختبارات للجهود المبذولة لجعل الحكومات أكثر كفاءة واستجابة، من خلال تقييم شامل لمجموعة واسعة من جهود الإصلاح في تسعة بلدان. في ست حالات، استهدفت الإصلاحات الأنظمة الأساسية للحكومة: إعادة هيكلة الأردن لعمليات مجلس الوزراء، ومراجعة السلطة الفلسطينية لإدارة المالية العامة، برنامج التقاعد الطوعي المغربي، إصلاحات إدارة الموارد البشرية في لبنان، مبادرة الحكومة الإلكترونية في دبي، ومحاولات تحسين الشفافية في تونس. تناولت خمس جهود إصلاحية أخرى الإدارات الحكومية، من بينها محاولة مصر تحسين تحصيل الضرائب وعمل المملكة العربية السعودية لتحسين تقديم الخدمات وتحصيل الفواتير. ويحاول الكتاب النظر الى كيفية تنفيذ عمليات الإصلاح، بالإضافة الى ما تم إنجازه، في محاولة لاستقصاء العبر واخذ الدروس المستفادة حول كيفية بناء إصلاحات القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
[3] أدت هذه العوامل – جنبًا إلى جنب مع الافتقار إلى الخبرة المؤسسية وخبرة بناء الدولة – إلى نظام إدارة الشؤون المالية العامة يتميز بثلاث نقاط ضعف أساسية:
١-عدم وجود نظام لتوحيد الإيرادات وإدارتها. لم يتم توحيد عائدات السلطة الفلسطينية في حساب واحد، ولم تكن خاضعة لسيطرة وزارة المالية. وعلى الأخص، تم توجيه ضرائب البترول والتبغ والكحول إلى حسابات خارجية. تم تحويل الضرائب البترولية مباشرة إلى حساب خاص في أحد البنوك الإسرائيلية، والذي كان يسيطر عليه الرئيس عرفات ومستشاره الاقتصادي محمد رشيد. يقدر صندوق النقد الدولي أن صافي ٥٩١ مليون دولار من عائدات الضرائب الانتقائية قد تم تحويلها من وزارة المالية بين عامي ١٩٩٥ و٢٠٠٠.
لم تكن إيرادات الوزارات التنفيذية تدار في حساب مركزي واحد. وبدلاً من ذلك، فإن تلك الوزارات التي تدر الإيرادات تحتفظ بحساباتها الخاصة بدلاً من تحويل المبالغ إلى الخزينة. تنفق الوزارات التنفيذية من هذه النفقات حسب تقديرها، حتى بما يتجاوز مخصصاتها في الميزانية. نتيجة لذلك، لم يكن لوزارة الخزانة سيطرة على الإيرادات والنفقات.
بالإضافة إلى ذلك، تمت إدارة الأنشطة التجارية للسلطة الفلسطينية بشكل سيء. استحوذت السلطة الفلسطينية على أسهم في العديد من المؤسسات التجارية، والتي كانت تابعة لشركة قابضة تسمى “شركة الخدمات التجارية الفلسطينية”. بعد استجواب عام في عام ١٩٩٧، وجد المجلس التشريعي أن ملكية الحكومة الجزئية أو الكاملة للعديد من الشركات لم تخضع للمراقبة من قبل المعهد العام للتدقيق، ولم يتم تضمين إيراداتها في ميزانية الحكومة. أدى عدم وجود الميزانيات العمومية أو التقارير السنوية المنشورة إلى عدم توفر معلومات محددة عن الأرباح المحققة في الفترة من ١٩٩٥ إلى ٢٠٠٠. علاوة على ذلك، أظهر التحقيق وجود معاملات تجارية غير معلنة بين المسؤولين العامين والجهات الفاعلة في القطاع الخاص حيث أعطى الأول للأخير امتيازات وانكماش. في دراسة صندوق النقد الدولي عام ٢٠٠٣، قدرت الأصول التجارية للسلطة الفلسطينية بنحو ٦٣٣ مليون دولار. وتشير التقديرات المتحفظة إلى أنه تم تحويل ما يقرب من ٣٠٠ مليون دولار من الأرباح خارج الميزانية بين عامي ١٩٩٥ و٢٠٠٠.
٢- ضعف عمليات الميزانية. لعدة سنوات مباشرة بعد اتفاقيات أوسلو، عانى تطوير الميزانية من نقاط ضعف تقنية كبيرة. كان هناك تنسيق ضعيف بين المانحين والسلطة الفلسطينية، مما أدى إلى تكامل سطحي لنفقات الاستثمار العام في الميزانية. كانت وزارة التخطيط ووزارة المالية من الجهات الموقعة على جميع مشاريع التنمية التي يمولها المانحون، لكن مشاركة هذين الكيانين محدودة في اختيار المشاريع. غالبا ما يتعامل المانحون بشكل مباشر مع الوزارات التنفيذية ومؤسسات السلطة الفلسطينية والهيئات الحكومية المحلية، ولم تكن هناك وكالة مركزية لمراقبة جميع المشاريع. لم يتم تقييم المشاريع في سياق إطار أوسع للاقتصاد الكلي وفشلت في حساب التكاليف المتكررة المستقبلية وقدرة خدمة الدين. ونتيجة لذلك، لم تعكس ميزانية السلطة الفلسطينية الاستثمار العام الممول من المانحين.
بعد الطلبات المتكررة من المجلس التشريعي، والدول المانحة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وافقت السلطة الفلسطينية على تقديم ميزانية في عام ١٩٩٦. لكن عملية إعداد الميزانية كانت لها جوانب كثيرة: لم يتم دمج مقترحات الموازنة في أي إطار عمل شامل. لم يكن من الممكن إجراء مناقشات جادة على مستوى مجلس الوزراء حول مختلف قضايا السياسة المالية أو انعكاساتها على المدى المتوسط. علاوة على ذلك، لم يتم الإفصاح عن أي بيانات مالية تنظيمية للجمهور أو للمجلس التشريعي. ونتيجة لذلك، لم يكن هناك إشراف مؤيد أو مشاورات واسعة النطاق في عملية الميزانية.
٣- نظم غير ملائمة لإدارة ومراقبة النفقات. احتفظ الرئيس عرفات بسلطة تقديرية شخصية كبيرة في الإنفاق، ولم يكن لوزير المالية سوى سيطرة جزئية. كان هناك العديد من مراكز الإنفاق في الضفة الغربية وغزة. إصدار شيكات الخزينة والتحويلات دون موافقة الوزير. كان الوزراء المباشرون يفرطون في إنفاق ميزانياتهم بشكل روتيني، وكانت أنظمة التدقيق الداخلي والرقابة على المدفوعات ضعيفة للغاية. تم دفع رواتب أفراد الأمن نقدًا بدلاً من التحويلات المصرفية، مما فتح النظام لإساءة استخدام كبيرة.
كما ساهمت الإدارة غير الكافية وضوابط الرواتب في التوظيف غير المنضبط في الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية، مما أدى بدوره إلى فاتورة أجور غير مستدامة. بحلول عام ١٩٩٩، شكلت فاتورة أجور السلطة الفلسطينية ١٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي و٥٥٪ من النفقات الجارية بحلول عام ٢٠٠٢، وزادت إلى ٧٠٪ من النفقات الجارية. وقد أدى ذلك إلى عدم كفاية الموارد للإنفاق غير المتعلق بالأجور، إلى جانب الفواتير والديون غير المسددة للقطاع الخاص. كانت المشكلة الرئيسية هي أن ديوان الموظفين العام، الذي كان مسؤولاً عن جميع عمليات التوظيف، كان خارج سيطرة وزارة المالية. ونتيجة لذلك، تم التوظيف دون أي اعتبار للميزانية.
أدى عدم وجود أنظمة مناسبة لإدارة النقد، إلى جانب ارتفاع مستويات الإنفاق التقديري، إلى ديون كبيرة ومدفوعات تفضيلية للموردين وفرص للفساد. وبحلول مارس ٢٠٠٠، وصلت الديون إلى ٣٧٠ مليون دولار، معظمها على شكل فواتير غير مدفوعة للموردين. ومع ذلك، تواصل وزارة المالية إصدار الشيكات حتى بدون الموارد الكافية لتغطيتها. عندما ذهب الموردون إلى صرف الشيكات الصادرة عن خزانتهم، كان للبنوك التجارية حرية التصرف في تحديد الشيكات التي سيتم
مقاصتها. كانت هناك مخاوف من أن مسؤولي البنك وكذلك بعض المسؤولين الماليين كانوا يتلقون رشاوي لهذه المعاملات.
كانت هناك مشكلة أخرى مهمة تتمثل في عدم وجود أي مؤسسة محاسبة خارجية ذات مصداقية. تأسس ديوان المحاسبة العام في عام ١٩٩٥، لكنه كان يفتقر إلى الاستقلالية والقدرات اللازمتين لأداء مهامه. أبلغت الرئيس، الذي كان لديه سلطة إعفاء أي مؤسسة عامة من التدقيق.
[4] كشوف المرتبات والمشتريات في قوات الأمن:
كانت طرق الدفع والمشتريات في الأجهزة الأمنية من بين أكثر الممارسات الخلافية التي تتطلب الإصلاح. وبحسب الدكتور جهاد الوزير، “اعتبر عرفات أن النفاق والأمن أمرين حاسمان لسلطته، حيث تم إنشاء نظام للولاء على أساس العلاقات الشخصية، ولم يكن عرفات يريد التدخل في هذا الأمر، لأنه اعتبر ذلك تدخلاً في مجاله “.
كشف رواتب:
وإدراكًا منه أن المدفوعات النقدية لأفراد الأمن فتحت النظام أمام فساد كبير، اتبع فياض إصلاحًا من شأنه أن ينشئ تحويلات بنكية مباشرة. لكن الرئيس عرفات وغيره من قادة قطاع الأمن لم يكونوا مستعدين للتعاون. وعقد اجتماعا مع قادة الامن في غزة. اثنان منهم قد تحالفوا مع فياض بالفعل، لكن الآخرين رفضوا تقديم التفاصيل المصرفية للموظفين، قائلين إن ذلك سيعرض أمن موظفيهم للخطر.
ثم ناشد فياض المجلس التشريعي للدفع بهذا الإصلاح، وقدم أسماء جميع المسؤولين الأمنيين الذين لم يكونوا مستعدين للامتثال. بالنسبة للعاملين في قطاع الأمن، في الواقع، مثلت التحويلات المصرفية المباشرة ميزة، لأنها تضمن دفع الرواتب في الوقت المناسب وتسمح لهم بالتأهل للحصول على قروض مصرفية. عندما استمر المسؤولون الأمنيون في معارضة هذا الإصلاح، قرر فياض الإعلان علناً عن إلغاء ضريبة الانتفاضة على جميع موظفي السلطة الفلسطينية إذا وافق قادة الأمن على الإصلاحات اللازمة. لكن هذا الإعلان كان موقوتًا للأسف “معركة سياسية كانت تختمر بين عرفات ورئيس الوزراء عباس، وبالتالي فإن الضغط من أجل الإصلاح يجب أن يأخذ مقعدًا خلفيًا مؤقتًا. وبحلول نهاية آب ٢٠٠٣، وافقت أربع هيئات أمنية تابعة لوزارة الداخلية على هذا المخطط. لم توافق النار التي كانت تحت سيطرة الرئيس.
كان الضغط مباشرة مع الرئيس عرفات مطلوبًا. أكد فياض ومصلحون آخرون لعرفات أن النظام النقدي الحالي يسمح للموظفين الفاسدين بالاستفادة من مصالح الأشخاص ذوي الرتب الدنيا في قطاع الأمن. أدى هذا الضغط، جنبًا إلى جنب مع الضغط من المانحين، في النهاية إلى النجاح في عام ٢٠٠٤. أنشأ مجتمع المانحين الصندوق الاستئماني العام للإصلاح في عام ٢٠٠٤، كآلية لدعم الميزانيات، لكن هذا الدعم كان مشروطاً بالإصلاحات والوفاء ببعض المعايير. وكان من بينها التنفيذ الكامل لقانون الموازنة لعام ٢٠٠٤، الذي نص على إيداع مدفوعات رواتب جميع أفراد الأمن مباشرة في حسابات مصرفية. باستخدام هذا الشرط كزيادة، نجحت وزارة المالية أخيرًا في شباط ٢٠٠٤في الحصول على موافقة الرئيس على دفع جميع رواتب قوات الأمن الوطني من خلال التحويلات المصرفية.
المشتريات:
احتكرت وكالة واحدة الإمداد لقوات الأمن، وكانت هناك مخاوف كبيرة بشأن المخالفات، وتم وضع اللجنة المسؤولة عن مشتريات قطاع الأمن تحت إشراف وكالة توريدات مركزية في وزارة المالية، وفتحت المشتريات لعملية تقديم العطاءات. قام فياض بإفلاس الشركة المحتكرة تدريجياً حتى توقفت عن العمل.
بينما لا يزال هناك مجال كبير لمزيد من التحسينات في المشتريات، كانت هذه الإصلاحات خطوة في الاتجاه الصحيح. تعكس أيضا استراتيجية الإصلاح الشاملة لفياض التي تم التعبير عنها في كلمات جهاد الوزير، باعتبارها واحدة من “النهج التدريجي والمنهجي، الذي أنجز المهمة”. يوضح الوزير أنه على الرغم من أن فياض كان تكنوقراطيا، “فقد تعلم بسرعة أن يكون سياسيًا. يعرف أين يدفع، وأين يتراجع … من خلال تجنب الأعمال الدرامية، والاتساق … من خلال السعي إلى الإجماع سواء دوليا أو محليا. انها شهادة على مهاراته السياسية “.
[5]
كان على فياض أن يشق طريقه عبر هذه البيئة المسيّسة للغاية. شرح بعض المبادئ الأساسية لاستراتيجيته:
التركيز على الجوانب الهيكلية: أراد فياض معالجة الجوانب الهيكلية لنظام الإدارة المالية العامة بدلاً من التركيز على الفساد بشكل مباشر. وأوضح: “عندما تدخل في موقع مثل هذا، فإن الناس عادة ما ينظرون إلى الجوانب الأمنية لإدارة سؤال المالية العامة – الفساد، من أخذ ماذا ومتى وكيف – ولكن ليس هذا الجانب الهيكلي. لقد كنت مشغولًا حقًا بذلك.. “
تعرف على الأولويات: بدأ فياض بإدارة الإيرادات والنفقات. لاحظ: “هناك عناصر لا يمكنك من دونها أن يكون لديك نظام مالي عام يعمل بشكل جيد. من الناحية المفاهيمية، ما لم تكن لديك عمليات خزينة مركزية، ما لم تستطع توحيد إيراداتك، وما لم تكن تنفذ النفقات في إطار ميزانية، فلا لديك الكثير من التمويل العام للحديث عنه “.
انتهز الفرص: في الوقت نفسه، تبنى فياض وجهة نظر مرنة، مدركا أنه لا يستطيع تحديد تسلسل الإصلاحات مسبقا أو السيطرة على العملية برمتها. وأوضح: “إنك تعمل ضمن نظام من العادات الراسخة بعمق – وليست جيدة – هل لديك أساسًا أحد الخيارين. إما أن تأتي وتقول، “هذا ما أريد القيام به. إما أن يتم ذلك، أو أنني خرجت، وهو ما كان يتوقعه الجميع، أو حتى أتعامل معه. أو انتهز الفرصة افعل ما تستطيع، بأسرع ما يمكنك القيام به، أينما يمكنك القيام به. اخترت الطريقة الأخيرة “.
توليد المصداقية منذ البداية: أراد فياض توليد الثقة في أجندة الإصلاح من خلال اتخاذ خطوات محددة وسريعة من شأنها أن تشير إلى النية. وأوضح: “لقد تعلمت الحاجة إلى التحرك بسرعة وترك انطباع أن الأمر يزداد صعوبة بمرور الوقت وليس أسهل. تحتاج إلى استخدام النجاح كنقطة انطلاق. النجاح يولد النجاح”.
قرر فياض أن يبدأ بـ “وقف النزيف”. كانت نقطة البداية هي توحيد حسابات السلطة الفلسطينية.
توحيد حسابات السلطة الفلسطينية
هناك قضيتان رئيسيتان تتعلقان بتوحيد حسابات السلطة الفلسطينية وهما الحاجة إلى خزينة مركزية قوية وإنشاء صندوق استثمار فلسطيني.
الخزينة المركزية:
إن أحد المتطلبات الأساسية لنظام مالي عام قوي هو الخزينة المركزية التي تتحكم في جميع عمليات المالية العامة، سواء في جانب الإيرادات أو الإنفاق. ومن هنا كانت نقطة البداية لفياض التأكد من أن جميع الإيرادات تأتي في حساب الخزينة المركزية.
في حين أدت الإصلاحات في عام ١٩٩٩إلى بعض توحيد تدفقات الإيرادات، بقي لدى السلطة الفلسطينية عدة حسابات يتم إيداع الإيرادات فيها. واحتفظت بعض الوزارات التي تجني الأموال والتي جمعت الإيرادات بهذه الأموال ولم تقم بتحويلها إلى حسابات مركزية. في حالة عدم وجود إطار محاسبي مناسب، كان مجال الخطأ كبيراً.
لعب النظام المصرفي دورًا مهماً. أصدر فياض تعميماً من خلال سلطة النقد الفلسطينية، يأمر جميع البنوك بضرورة إدخال جميع الحسابات الحكومية في حساب مركزي واحد. يجب حظر أي شيكات صادرة مباشرة من الوزراء وبالتالي، فإن البنوك ملزمة قانوناً بضمان تحويل الأموال إلى الحساب المركزي.
كما أرسلت هذه الخطوة إشارة مهمة للغاية حول دور وزارة المالية. على عكس النظام السابق، ستمارس وزارة المالية الرقابة على جميع الشؤون المالية للسلطة الفلسطينية.
صندوق الاستثمار الفلسطيني
كان التعامل مع أصول السلطة الفلسطينية مصدر خلاف خاص لأولئك المعنيين بالفساد. في وقت مبكر من عام ٢٠٠٠، تم تشكيل مجلس أعلى للاستثمار وتكليفه بإنشاء صندوق الاستثمارات العامة.
ومع ذلك، لم يتحقق هذا الهدف. المتورطون في هذه الأنشطة التجارية كانوا مرتبطين بالخلايا وشخصيات قوية في بيروقراطية السلطة الفلسطينية والمؤسسة الأمنية. كانت احتمالية المعارضة كبيرة، وتحتاج هذه الإصلاحات إلى التعامل معها دبلوماسياً.
في غضون الأشهر الأولى من تعيينه، مضى فياض قدماً في هذه القضية، متبعاً نهجاً تصالحياً. وشدد على الهدف المتمثل في بناء المؤسسات والأنظمة المناسبة بدلاً من نهج استقصائي لتحديد مصادر الفساد.
في غضون شهرين من تعيين فياض، تمت صياغة النظام الأساسي لصندوق الاستثمارات العامة، وتم إنشاء المنظمة رسميا في أكتوبر ٢٠٠٢. تم تعيين مجلس إدارة مع وزير المالية كرئيس بحكم منصبه. ضمنت اللوائح الجديدة أنه من غير القانوني للسلطة الفلسطينية أن تشارك في أنشطة تجارية خارج صندوق الاستثمارات العامة أو أن يتم تحويل الدخل من الخزانة.
حساساً للمخاوف السابقة بشأن إدارة هذه الأصول، أشرك فياض ثم مجلس الإدارة مؤسستين خارجيتين. بلغت قيمة تقييم الأصول اعتبارًا من ١ كانون الثاني ٢٠٠٣، ٦٣٣ مليون دولار، بما في ذلك ٦٧ كياناً تجارياً وأصولا سائلة.
الهيئة العامة للبترول
مع اكتساب مصداقية برنامج الإصلاح، بدأ فياض في تناول بعض القضايا الأكثر إثارة للجدل. كانت هيئة البترول هي المورد الاحتكاري للمنتجات البترولية منذ عام ١٩٩٦. وتم إدارتها ككيان مستقل خارج نطاق اختصاص أي مؤسسة مراقبة تابعة للسلطة الفلسطينية، وتم توجيه أرباحها خارج الميزانية. عُرفت الهيئة بممارسة سلطتها الاحتكارية والانخراط في عدد من الممارسات غير التنافسية، بما في ذلك التسعير التفاضلي، وتغيير المنتج، وسياسات الترخيص الرسمية للموزعين، وفرض شكل من أشكال الشراكة على محطات الوقود كشرط مسبق للترخيص. سياسة التسعير الخاصة بهم، التي حاولت تعظيم الأرباح، خلقت أيضًا حوافز للتهريب عبر الحدود والمبيعات غير الرسمية للمنتجات البترولية. وقد أدى ذلك إلى خسارة الإيرادات والضرائب غير المباشرة للسلطة الفلسطينية.
أدرك فياض أن هذه الإصلاحات ستكون صعبة. لكنه واجه التحدي على وجه التحديد بسبب الإيرادات الكبيرة التي كان يولدها والآثار الإيجابية المحتملة لهذه الإصلاحات على حياة الناس اليومية. في البداية، أبلغ فياض رئيس الجهاز أنه يجب تحويل جميع الأرباح الشهرية إلى وزارة المالية. في الشهر الأول، حول ٥ ملايين إلى وزارة المالية. وبالمثل، في الشهر المقبل، تم تحويل ٥ ملايين دولار إلى الخزينة. اشتبه فياض – لماذا تم تحويل نفس المبلغ بالضبط من شهر لآخر؟ أدرك أنه لا توجد إمكانية لإصلاح النظام ما لم يتخذ إجراءات جادة. وأمر بإحالة جميع حسابات الجهاز الشخصي إلى وزارة المالية وتجميد حساباتها في ربيع عام ٢٠٠٣. ثم تم وضعه تحت السيطرة الكاملة لوزارة المالية، تلاه تغيير في الإدارة والهيكل الحكومي وإجراء تدقيق كامل من معاملاتها المالية.
من خلال هذه العملية، حوّل فياض حوافزه من تعظيم الأرباح للعمولة إلى تعظيم الإيرادات للدولة. نتيجة لذلك، كانت إحدى الخطوات الأولى التي اتخذها بعد توليه المهمة هي تغيير نظام التسعير الشخصي. أزال هيكل التسعير الاحتكاري. تم تخفيض أسعار المنتجات عن طريق خفض هامش الربح وكذلك إعادة التفاوض على الأسعار مع المورد الإسرائيلي. كان الهدف هو استعادة الحصة السوقية المفقودة من التهريب والمبيعات غير الرسمية، وقد أثبتت الاستراتيجية أنها سائبة. في غضون شهر، زادت المبيعات الرسمية بشكل كبير وصاحبها زيادات متناسبة في ضريبة القيمة المضافة وضرائب الإنتاج، مما أدى إلى زيادة إيرادات الخزينة. يرى فياض أن هذا أحد أعظم نجاحاته: “هذا مثال جيد جدا حيث كان الإصلاح يعني شيئًا ملموسا: بدأ الناس يدفعون أقل بكثير مقابل النفط، مقارنة بما كان عليه الحال من قبل.”
كشوف المرتبات والمشتريات في قوات الأمن:
كانت طرق الدفع والمشتريات في الأجهزة الأمنية من بين أكثر الممارسات الخلافية التي تتطلب الإصلاح. وبحسب الدكتور جهاد الوزير، “اعتبر عرفات أن النفاق والأمن أمرين حاسمان لسلطته، حيث تم إنشاء نظام للولاء على أساس العلاقات الشخصية، ولم يكن عرفات يريد التدخل في هذا الأمر، لأنه اعتبر ذلك تدخلاً في مجاله “.
كشف رواتب:
وإدراكًا منه أن المدفوعات النقدية لأفراد الأمن فتحت النظام أمام فساد كبير، اتبع فياض إصلاحًا من شأنه أن ينشئ تحويلات بنكية مباشرة. لكن الرئيس عرفات وغيره من قادة قطاع الأمن لم يكونوا مستعدين للتعاون. وعقد اجتماعا مع قادة الامن في غزة. اثنان منهم قد تحالفوا مع فياض بالفعل، لكن الآخرين رفضوا تقديم التفاصيل المصرفية للموظفين، قائلين إن ذلك سيعرض أمن موظفيهم للخطر.
ثم ناشد فياض المجلس التشريعي للدفع بهذا الإصلاح، وقدم أسماء جميع المسؤولين الأمنيين الذين لم يكونوا مستعدين للامتثال. بالنسبة للعاملين في قطاع الأمن، في الواقع، مثلت التحويلات المصرفية المباشرة ميزة، لأنها تضمن دفع الرواتب في الوقت المناسب وتسمح لهم بالتأهل للحصول على قروض مصرفية. عندما استمر المسؤولون الأمنيون في معارضة هذا الإصلاح، قرر فياض الإعلان علناً عن إلغاء ضريبة الانتفاضة على جميع موظفي السلطة الفلسطينية إذا وافق قادة الأمن على الإصلاحات اللازمة. لكن هذا الإعلان كان موقوتًا للأسف “معركة سياسية كانت تختمر بين عرفات ورئيس الوزراء عباس، وبالتالي فإن الضغط من أجل الإصلاح يجب أن يأخذ مقعدًا خلفيًا مؤقتًا. وبحلول نهاية آب ٢٠٠٣، وافقت أربع هيئات أمنية تابعة لوزارة الداخلية على هذا المخطط. لم توافق النار التي كانت تحت سيطرة الرئيس.
كان الضغط مباشرة مع الرئيس عرفات مطلوبًا. أكد فياض ومصلحون آخرون لعرفات أن النظام النقدي الحالي يسمح للموظفين الفاسدين بالاستفادة من مصالح الأشخاص ذوي الرتب الدنيا في قطاع الأمن. أدى هذا الضغط، جنبًا إلى جنب مع الضغط من المانحين، في النهاية إلى النجاح في عام ٢٠٠٤. أنشأ مجتمع المانحين الصندوق الاستئماني العام للإصلاح في عام ٢٠٠٤، كآلية لدعم الميزانيات، لكن هذا الدعم كان مشروطاً بالإصلاحات والوفاء ببعض المعايير. وكان من بينها التنفيذ الكامل لقانون الموازنة لعام ٢٠٠٤، الذي نص على إيداع مدفوعات رواتب جميع أفراد الأمن مباشرة في حسابات مصرفية. باستخدام هذا الشرط كزيادة، نجحت وزارة المالية أخيرًا في شباط ٢٠٠٤في الحصول على موافقة الرئيس على دفع جميع رواتب قوات الأمن الوطني من خلال التحويلات المصرفية.
المشتريات:
احتكرت وكالة واحدة الإمداد لقوات الأمن، وكانت هناك مخاوف كبيرة بشأن المخالفات، وتم وضع اللجنة المسؤولة عن مشتريات قطاع الأمن تحت إشراف وكالة توريدات مركزية في وزارة المالية، وفتحت المشتريات لعملية تقديم العطاءات. قام فياض بإفلاس الشركة المحتكرة تدريجياً حتى توقفت عن العمل.
بينما لا يزال هناك مجال كبير لمزيد من التحسينات في المشتريات، كانت هذه الإصلاحات خطوة في الاتجاه الصحيح. تعكس أيضا استراتيجية الإصلاح الشاملة لفياض التي تم التعبير عنها في كلمات جهاد الوزير، باعتبارها واحدة من “النهج التدريجي والمنهجي، الذي أنجز المهمة”. يوضح الوزير أنه على الرغم من أن فياض كان تكنوقراطيا، “فقد تعلم بسرعة أن يكون سياسيًا. يعرف أين يدفع، وأين يتراجع … من خلال تجنب الأعمال الدرامية، والاتساق … من خلال السعي إلى الإجماع سواء دوليا أو محليا. انها شهادة على مهاراته السياسية “.
مراقبة المصروفات
مشكلة رئيسية أخرى تتعلق بإصدار شيكات الخزينة، حيث كانت السلطة الفلسطينية تصدر شيكات بدون أموال كافية. وهكذا بدأ فياض باتباع “خطوات إدارية بسيطة” لتحسين النظام. أوضح منهجه: “جمعت الأشخاص الذين شاركوا في عملية تحرير الشيك. قلت لكل منهم أن يواصل ما يفعله. لم تكن هناك تغييرات، باستثناء الشخص الذي أرسل الشيك إلى البنك. لقد وجهته إلى وضع الشيك في سحبه، وأبلغه أنه في نهاية كل يوم، سيتم اطلاعه على القيمة الإجمالية للشيكات التي يمكن إرسالها إلى البنوك حسب توفر الأموال في الخزانة. مصحوبة بملاحظة تحدد اسم المستفيد ورقم الشيك وما إلى ذلك “
من خلال تطبيق هذه الطريقة، يهدف فياض إلى وضع عملية إصدار الشيك تحت السيطرة الكاملة لوزارة المالية وإزالة السلطة التقديرية التي كانت في السابق في أيدي البنوك التجارية. من خلال القيام بذلك، قلل أيضًا من نطاق البحث عن الريع في عملية الصرف. لم تكن هذه العملية خالية من التحديات. كان لدى بعض كبار المسؤولين في بيروقراطية وزارة المالية حافز للحفاظ على النظام السابق ويمكنهم التدخل في عمل الموظفين ذوي الرتب الدنيا. للتعامل مع هذه المشكلة، أصدر فياض بيانًا للصحافة بأن وزارة المالية لن تصدر شيكًا سيئًا مرة أخرى، كما مُنع كبار الضباط من التدخل في عملية تأمين الشيكات المحددة.
يوضح هذا المثال كيف حاول فياض معالجة المعارضة الداخلية داخل البيروقراطية. كان يعمل في بيئة يتمتع فيها الموظفون المسيسون بشدة بحماية الخدمة المدنية. كان يحاول أيضا تقديم ثقافة مهنية جديدة يكون فيها الالتزام بالمبادئ والأجندات المؤسسية له الأسبقية على الولاءات الشخصية والسياسية. لم يكن من الممكن تفكيك المعارضة الداخلية بسهولة، لأن العديد من الذين عارضوا التغييرات المقترحة كان لديهم أيضا نفوذ سياسي كبير داخل فتح.
بعد فترة وجيزة من وصوله إلى وظيفته، وعد العاملين لديه بأنه لن يطرد أيا منهم وسيمنح كل منهم فرصة لإظهار التزامه بالإصلاحات الجارية. إذا كان الموظفون غير مستعدين للامتثال، فإنه ببساطة أعاد توجيه العمل بعيدا عنهم. وبذلك، قلل من قوتهم في العمليات اليومية للوزارة بينما سمح لهم بالبقاء جسديا في مناصبهم. لقد اعتبر هذه الطريقة الأكثر جدوى من الناحية السياسية لـ “تنظيف النظام”.
كما حاول فياض زيادة الدعم السياسي. وطالب بإضفاء المصداقية على النظام من خلال احترام الشيكات وخفض ديون السلطة الفلسطينية على الرغم من نقص السيولة. وأوضح: “نظراً لأننا كنا في وضع سيولة ضيق، فقد اعتقدت أن ما يجب أن نفعله هو أن ندفع للأشخاص الذين لديهم ديون صغيرة. وهذا يغطي شريحة أكبر بكثير من الناس ويستهدف الشريحة الأقل حظا من المجتمع. وهذا ما أعطى البرنامج أيضا الدعم العام. لا يوجد شيء من الإصلاح بالمعنى الهيكلي حول هذا. هذه مسألة اتخاذ القرار، لتقييم مكانك بشكل أفضل وأفضل طريقة لإدارة الموقف. لذلك قررت، دعونا حقًا ننفق معظم الأموال على الأشخاص الذين كانوا مستحقين لمبالغ صغيرة.”
الميزانية والإقرار المالي
تم إجراء إصلاحات كبيرة في عملية الميزانية. حدد تقييم صندوق النقد الدولي لعام ٢٠٠٣ التحسينات الرئيسية في عدة مجالات. كان الأول في شمولية الميزانية، والتي تضمنت الآن معايير الاقتصاد الكلي، ومقارنات مع الأداء الفعلي في عامي ٢٠٠١ و٢٠٠٢، وأرباح صندوق الاستثمارات العامة، وبيانات التوظيف، والقيود المفروضة على التوظيف في الخدمة المدنية، ونفقات الاستثمار العام. تحسين آخر عزز الشفافية من خلال نشر خطاب الميزانية وبيانات الميزانية على موقع وزارة المالية على الإنترنت، إلى جانب البيانات الشهرية عن تنفيذ الميزانية. وتضمنت الإصلاحات الأخرى إلغاء الأموال الحكومية الكبيرة المخصصة لمكتب الرئيس وإدخال قانون الموازنة الذي يحظر على وزارة المالية الاقتراض من البنك المركزي.
بالنسبة لفياض، لم تكن هذه الإصلاحات مجرد عملية لتحسين الأدوات الفنية لإدارة المالية العامة، بل كانت أساسية لتعزيز مفهوم المساءلة. من موازنة ٢٠٠٣ قال:
“هنا شيء لا يأكله أو يشربه الناس. المعلومات التي تنشرها لا تحدث فرقا كبيرا بالنسبة لشخص ما في حالة وجود شخص ما. سواء قمت بنشر معلومات أم لا، لا يمكنهم قراءتها أو تناولها. ولكن إحساسي السياسي هو ذلك لقد أحدثت فرقا. كان الأمر مهمًا للناس – جزئيا لأننا جعلناه كذلك. قلنا، “إنها أموالك، تحتاج حقا إلى معرفة ما حدث لها.”
كما حاول أن يولد دعما سياسيا محليا للإصلاحات من خلال ربطها بالنضال الأوسع لإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. وأوضح: “كان هذا يتعلق بمشروع للتحرر الوطني والبناء نحو الدولة، لذا فإن ربط ما تفعله بهذا الهدف الأوسع، والذي يعد شيئًا ذا قيمة ومهمًا للجميع، كان دائمًا مهمًا. لذلك لدينا الآن حقًا لبنة أساسية من نظام المالية العامة “.
في حين أن المدى الذي أحدثه هذا الصدى بين الفلسطينيين العاديين قابل للنقاش، كان فياض يحاول معالجة قضية حساسة للغاية للأسر العادية: سوء إدارة السلطة الفلسطينية للمالية العامة.
عزز تحسين الإفصاح المالي الحماس الكبير وحسن النية بين المانحين. لقد عالجت تكنولوجيا المعلومات مصدر قلق أساسي لطالما أزعج المجتمع الدولي. أعطت هذه السمعة لفياض النفوذ الضروري لتوليد الدعم السياسي الخارجي، والذي ترجم في النهاية إلى تدفقات مالية تمس الحاجة إليها.
كما ذكرنا سابقا، كان حجب إسرائيل عن عائدات المقاصة الفلسطينية منذ كانون الثاني ٢٠٠٠احد المساهمين الرئيسيين في الوضع المالي السيئ للسلطة الفلسطينية في منتصف عام ٢٠٠٢. ولَّد التقدم الجدير بالمصداقية في الإصلاح دعما كبيرا في الإدارة الأمريكية، مما شجع إسرائيل لاحقا على إطلاق الإيرادات. استجابت إسرائيل لهذه الدفعة وبدأت في الإفراج المنتظم عن عائدات المقاصة الشهرية من أوائل عام ٢٠٠٣.
[6] تم اختبار قدرات فياض منذ البداية. كان عليه أن يدير أزمة مالية خطيرة بينما كان يحاول المضي قدمًا في إصلاحات كبرى. منذ أواخر عام ٢٠٠٠، أوقفت إسرائيل تحويلات إيرادات المقاصة الشهرية التي تخص السلطة الفلسطينية. وقدر صندوق النقد الدولي أنه بحلول نهاية عام ٢٠٠٢، تراكم إجمالي ٥٠٠ مليون دولار. أدى هذا النقص في الأموال الحرجة إلى عجز متزايد في الميزانية. بحلول منتصف عام ٢٠٠٢، كانت السلطة الفلسطينية تعمل على الائتمان القسري من القطاع الخاص، الذي كان يعاني من انخفاض حاد في الطلب بسبب الإغلاقات الإسرائيلية وكان يكافح من أجل خدمة قروضه المصرفية. ونتيجة لذلك، بدأ الموردون في خدمة السلطة الفلسطينية مقابل النقد فقط، ولم تكن السلطة الفلسطينية قادرة على تمويل اعتمادات ميزانيتها ومدفوعات الرواتب الشهرية لموظفي القطاع العام.
[7] كانت الإصلاحات لاحتواء فاتورة أجور القطاع العام من بين أكثر الإصلاحات صعوبة. في السنوات الست التي انقضت منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، نما إجمالي العمالة في القطاع العام بنحو ٧٠ في المائة. في أعقاب زيادات الأجور في عام ٢٠٠٣، وافقت السلطة الفلسطينية في عام ٢٠٠٤ على خطة احتواء فاتورة الأجور للفترة ٢٠٠٤-٢٠٠٦. تم وضع الالتزام بمشروع القانون كمعيار للإنفاق من الصندوق الاستئماني لإصلاح المالية العامة الذي يديره البنك الدولي. تم اتخاذ خطوات أخرى، بما في ذلك نقل إدارة كشوف المرتبات من انقلاب الموظفين العامين إلى وزارة المالية؛ تمرير قرار من مجلس الوزراء لفرض التقاعد في القطاع العام عند سن الستين وتغيير معايير المعاشات.
مع الانحدار الاقتصادي الحاد الذي أعقب الانتفاضة الثانية، اشتدت الضغوط على القطاع العام ليكون بمثابة حاجز ضد فقدان الوظائف. بشكل أكبر، أدت القيود المفروضة على التنقل بين المدن والقرى والضغوط الديموغرافية خلقت الحاجة إلى العديد من المراكز الصحية والمدارس والمكاتب العامة على المستوى المحلي، إلى جانب الانخفاض الحاد في تصاريح العمل في إسرائيل والقدرة المحدودة للقطاع الخاص على استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل، تضغط على السلطة الفلسطينية لتوفير فرص عمل لـ ٤٠،٠٠٠ عامل يدخلون سوق العمل سنويا.
كما طالبت النقابات العمالية في الوضع الانتخابي بزيادة الرواتب مع التهديد بالإضرابات. في النهاية، استسلمت الحكومة ووافقت على زيادات كبيرة في الرواتب. نتيجة لذلك، في عام ٢٠٠٥، ارتفع متوسط الأجور بنسبة ١٣ في المائة لموظفي القطاع المدني، إضافة إلى الزيادة البالغة ٢٠ في المائة التي حصلوا عليها بالفعل في عام ٢٠٠٣ مع تنفيذ قانون الخدمة المدنية. زاد متوسط الأجور بنسبة ٢٨٪ لموظفي قطاع الأمن، وأضيف ٣٦٦٦ موظفًا إلى الخدمة المدنية في عام ٢٠٠٥ وحده.
[8] على الرغم من القيود الشديدة على الميزانية والتهديد بفرض عقوبات من قبل مجتمع المانحين، قامت السلطة الفلسطينية بتوسيع نطاق تجنيد الشرطة طوال عام ٢٠٠٥.
إن ارتفاع الأجور يضع السلطة الفلسطينية في انتهاك واضح لاتفاقها مع المانحين. وفقًا لتقديرات البنك الدولي، تجاوز إجمالي فاتورة الأجور المليار في عام ٢٠٠٥، ارتفاعا من ٨٧٠ مليونا في عام ٢٠٠٤. وبحلول نهاية عام ٢٠٠٥، مثلت فاتورة الأجور ما يقرب من ٢٣ في المائة من إجمالي الناتج المحلي السنوي لمجموعة البنك الدولي و٨٢ في المائة من إجمالي الإيرادات الحكومية. أصبحت السلطة الفلسطينية تعتمد بشكل خطير على مصادر التمويل الخارجية ليس فقط في ميزانيتها الاستثمارية، ولكن لنفقاتها المتكررة أيضا. تم تعليق مدفوعات المانحين من خلال صندوقالتابع للبنك الدولي.
[9] الرقابة العامة على الشؤون المالية للسلطة الفلسطينية.
تحقق إصلاحات ٢٠٠٢-٢٠٠٥ خطوات كبيرة فيما يتعلق بإنشاء قسم للتدقيق الداخلي، وتعيين مراقبين ماليين داخليين في الصفوف الصغيرة، والتعهد بالشفافية المالية والموازنة. ولكن كان من الضروري بذل المزيد من الجهود لتعزيز الرقابة الخارجية، وتعزيز دور البرلمان في الرقابة المالية، ومكافحة الفساد.
المراجعة الخارجية. لم يتم إنشاء مؤسسة تدقيق خارجية فعالة وكاملة يمكنها الحفاظ على الرقابة على النشاط المالي للحكومة. بينما تم إنشاء مؤسسة التدقيق العام في عام ١٩٩٥، كانت تفتقر إلى الاستقلالية والقدرة. كان المدقق مرتبطا سياسيا بعرفات وراسخا في منصبه. في عام ٢٠٠٤، أصدر المجلس التشريعي القانون رقم ١٥، بإنشاء مؤسسة تدقيق خارجية جديدة، وهي مكتب الرقابة المالية والإدارية. لسوء الحظ، افتقر القانون الجديد للدعم، لذلك استمر التنفيذ ببطء. اعتقد وزير المالية أن تطوير هذه المؤسسة كان من مسؤولية المجلس التشريعي، أو الرئيس، أو مكتب رئيس الوزراء، وليس وزارة المالية، بالنظر إلى موقعها كمدقق حسابات.
الدور الرقابي للبرلمان.
كان للجنة المجلس التشريعي لشؤون الميزانية والشؤون المالية أدوارا مهمة في وضع الميزانية وتنفيذ ومتابعة الموازنة. ويمكنها مراجعة مشروع قانون الموازنة، واقتراح تخفيضات في الإنفاق، والتوصية بالموافقة أو الرفض على القانون للمجلس التشريعي، ومساءلة الحكومة بشأن الخطط المالية والاستقرار المالي، ومناقشة التعديلات المقترحة على الموازنة والموافقة عليها، والرقابة على تنفيذ الميزانية. لكن المجلس التشريعي الفلسطيني لم يكن قادرًا على القيام بهذه الوظائف بشكل مناسب والحفاظ عليها، على الرغم من المحاولات التي بذلت في إصلاحات ٢٠٠٢-٢٠٠٥ لتحسين مشاركة المجلس التشريعي في هذه العمليات. لم تنجح الإصلاحات بسبب مزيج من الديناميكيات السياسية الداخلية داخل السلطة الفلسطينية، وضعف القدرات الفنية من جانب المجلس التشريعي نفسه، وبيئة الإيرادات شديدة التقلب. بحلول عام ٢٠٠٦، جعلت مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك تدفقات الإيرادات المحلية المحيطة غير المؤكدة ونقص القدرة بسبب إضراب كبير للموظفين المدنيين، تمرير الميزانية أمرًا مستحيلًا.
محاربة الفساد.
في حين أن إصلاحات ٢٠٠٣-٢٠٠٥ قللت من نطاق الممارسات الفاسدة، لم يتم تطوير مؤسسات وآليات مخصصة للتحقيق في الفساد ومعاقبة مرتكبيه. تم تقييد الهيئات القائمة المعنية بقضايا الفساد، مثل النيابة العامة أو مكتب مفوض المكاسب غير المشروعة، بسبب الصلاحيات والموارد المحدودة.
ربط تخصيص الموارد بالأولويات الوطنية
ومن المجالات الأساسية الأخرى التي لم تشهد تحسنا ملحوظا دمج الموازنة مع صنع السياسات والتخطيط – وهو تحدٍ حاد نظرا لتقلب إيرادات السلطة الفلسطينية والمستويات المرتفعة لتمويل المانحين. ومع ذلك، كان من بين التطورات الإيجابية إدراج ٢١٢ مليون دولار من النفقات الرأسمالية الممولة من المانحين في ميزانية عام ٢٠٠٣. كان الدمج ممكناً فقط إلى الحد الذي استطاع فيه جمع الأموال من المانحين المودعة في حسابات فرعية ضمن حساب الخزانة المركزية. في تشرين الثاني ٢٠٠٥، خطت الحكومة خطوة أخرى إلى الأمام ووافقت على خطة لتنفيذ إطار عمل متكامل للموازنة في وقت تعهدت فيه مجموعة الثماني بتقديم الدعم المالي. كانت أهدافها تطوير عملية التخطيط والموازنة التي تدمج عمليات التخطيط الإنمائي الحالية مع عمليات الموازنة المتكررة.
حدد تحليل وزارة التخطيط في 2005 العديد من التحديات في هذا المجال. وشملت هذه: الفصل المؤسسي بين التخطيط والميزانية؛ عدم وجود إطار للسياسة على المستوى الوطني؛ ضعف مشاركة مجلس الوزراء والمجلس التشريعي في سياسة التنمية المتوسطة الأجل والتخطيط، والمنافسات التنظيمية داخل الحكومة وبين القطاعين العام والخاص؛ وعدم التوافق بين أنظمة المحاسبة المستخدمة من قبل بعض الوزارات الحكومية وتلك الخاصة بوزارة المالية. بالإضافة إلى ذلك، حدد التحليل أن عددا كبيرا من مساعدات المانحين الثنائية خلقت حوافز لاعتماد نهج يحركه المشروع في التنمية بدلاً من نهج سياسي وقائم على النتائج. غالبا ما ساهم المانحون أنفسهم في اتباع نهج غير منسق من خلال التفاعل المباشر مع الوزارات التنفيذية والمؤسسات الحكومية الأخرى بدلاً من ضمان مشاركة كافية من وزارة المالية ووزارة التخطيط. ونتيجة لذلك، لم تتوفر معلومات شاملة عن المستوى الإجمالي للنفقات الرأسمالية التي يمولها المانحون.