أنطون مراد
أمرُ محزن جدّا أن نرى اللبنانيين منقسمين حول كل شيء بسبب أنانية بعض السياسيين الذين لم يعتادوا الترفّع إلى المستوى الوطني ويحاولون استغلال كل موضوع لتحقيق مكاسب سياسية شخصية حتى ولو أدى ذلك إلى خسارة حقوقنا الوطنية. آخر فصول هذه الانقسامات تلك الحاصلة حول موضوع ترسيم الحدود البحرية الجنوبية وتعديل المرسوم 6433. الجيش اللبناني يخوض بصدق هذه المعركة في حين أن معظم السياسيين يحاولون سرقة إنجازات الجيش واستثمارها لمصالحهم الخاصة سواء المدافعين عن تعديل المرسوم أم الرافضين للتعديل. والمزعج في هذا المشهد هو استسهال تخوين الآخرين من قبل أشخاصٍ يدّعون الدفاع عن الحقوق الوطنية ويتّهمون الغير بالتفريط بهذه الحقوق، والكثير من هؤلاء غير ملمّين بالملف البحري ولكنهم بارعين في المزايدات ظنّاً منهم أنهم بهذه الطريقة يخدمون الجيش اللبناني والوفد المفاوض. حرصاً على مقاربة هذا الملف الوطني الهام، وجدت أن من واجبي اليوم شرح الموضوع بطريقة عاقلة، إستناداً إلى الوقائع العلمية والتقنية بعيدًا عن العواطف والانفعالات، وإلى متابعتي الدقيقة لهذا الملف خلال خدمتي الفعلية وإصداري بعد إحالتي على التقاعد كتابًا أوضحت فيه الحقوق اللبنانية الضائعة بين الخطوط البحرية المتعدّدة والأسباب التي تسبّبت في خلق هذه الخطوط. إن سبب المشكلة هو سوء إدارة هذا الملف من قبل السلطات المتعاقبة التي عمدت إلى إدارته من خارج إطار المؤسسات، الأمر الذي تسبّب بوقوع أخطاء كثيرة ومميتة يتحمّل مسؤوليتها الجميع سواء من كانوا في السلطة من خلال تحميلهم الوطن خسائر كبيرة نتيجة إدارتهم الفاشلة أم الذين في المعارضة بسبب إهمال واجباتهم في مراقبة السلطة التنفيذية والتدخّل لمنع وقوع هذه الأخطاء عبر ممثّليهم في مجلس النواب. سأحاول اختصار الأخطاء الرئيسية التي ارتُكِبت منذ نشوء المسألة الحدودية البحرية حتى اليوم على الشكل التالي: الخطأ الأول: تكليف مدير عام النقل البري والبحري في وزارة الأشغال ومعه موظف من مديريته بإجراء مفاوضات مع قبرص في العام 2006 من دون إشراك الوزارات الأخرى، الأمر الذي تسبّب باعتماد النقطة رقم (1) التي تتراجع شمالاً نتيجة عدم خبرة المفاوضين. واستُكمِل هذا الخطأ باعتماد هذه النقطة في الاتفاقية التي تم توقيعها مع قبرص في العام 2007. الخطأ الثاني: تشكيل لجنة مشتركة برئاسة المدير العام نفسه لترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة أواخر العام 2008 أي بعد حوالي سنتين من توقيع الاتفاقية مع قبرص. قامت هذه اللجنة باعطاء التأثير الكامل لصخرة تخيليت فكانت النتيجة خط النقطة (23) الذي يعطي لبنان الحد الأدنى من حقوقه برغم أن الترسيم تمّ من الجانب اللبناني لوحده. المطلوب عقد اجتماع فوري ومفتوح برئاسة رئيس الجمهورية ومشاركة جميع السلطات السياسية والعسكرية المعنية، على أن تتم الاستعانة بأفضل الخبراء اللبنانيين والدوليين إذا اقتضى الأمر، لدراسة الموضوع من جوانبه القانونية والسياسية والتقنية والعسكرية، من أجل إتخاذ القرار الوطني المناسب الخطأ الثالث: برغم أن النقطة (23) غير منصفة للبنان، لم تقدم الحكومة اللبنانية على تعديل الاتفاقية مع قبرص وأبقت على النقطة رقم (1) من دون أي مبرّر. ولو فعلت ذلك لما كان تمكّن العدو الإسرائيلي من وضع نقطته عند النقطة رقم (1) وفرض المنطقة بين النقطتين المذكورتين كمنطقة متنازع عليها ومساحتها 860 كلم2 . الخطأ الرابع: لم تتصرّف الحكومة اللبنانية عند تلقيها رسالة من قبرص قبل شهرين من توقيعها اتفاقية مع العدو الإسرائيلي، الأمر الذي سمح لقبرص بتمرير هذه الاتفاقية دون أن تواجه أي اعتراض من السلطات اللبنانية. الخطأ الخامس: إصدار المرسوم 6433 في العام 2011 باعتماد النقطة (23) وإيداعه الأمم المتّحدة برغم وجود آراء ودراسات لبنانية وأجنبية تعطي لبنان مساحات إضافية جنوب النقطة (23). أهم هذه الدراسات تلك التي أعدّها مكتب الهيدروغرافيا البريطاني UKHO بتاريخ 17 آب/ أغسطس 2011 والتي دفعت الحكومة اللبنانية ثمنها عشرة آلاف باوند ولم تعرضها على مجلس الوزراء ومن ثم على مجلس النواب. الخطأ السادس: التفرّد بالتفاوض مع الوسيط الأميركي فريدريك هوف في العام 2012 حيث شارك فريق لبناني برسم هذا الخط فاعتبر الوسيط الأميركي أن مبادرته ضمنت نجاحها قبل أن يتفاجأ لاحقًا بعدم وجود موقف لبناني موحّد حولها. الخطأ السابع: متابعة الملف من رئيس مجلس النواب من العام 2012 حتى العام 2020 من دون إشراك المؤسسات الرسمية اللبنانية وتحديدا مؤسسة الجيش اللبناني. الخطأ الثامن: استلام رئيس الجمهورية الملف من رئيس مجلس النواب من دون أي تنسيق معه ومن دون الاطلاع على نتيجة المفاوضات التي قام بها على مدى ثماني سنوات للانطلاق من النقطة التي بلغتها هذه المفاوضات بدل الانطلاق من الصفر. الخطأ التاسع: عدم الإقدام على تعديل المرسوم 6433 قبل انطلاق المفاوضات، الأمر الذي شكّل نقطة ضعف قانونية في دفاع الفريق اللبناني المفاوض. الخطأ العاشر: عدم تبنّي الحكومة اللبنانية بشكل رسمي دراسة الجيش اللبناني التي تعتمد النقطة (29) بدلاً من النقطة (23) لتصبح دراسة لبنان وتأمين الدعم الكامل لها قبل انطلاق المفاوضات. الخطأ الحادي عشر: اعتراض رئيس حكومة تصريف الأعمال على تشكيل الفريق المفاوض واعتباره أن التشكيل تمّ خارج الأطر الدستورية، ومهاجمة بعض القوى السياسية للوفد اللبناني وصولاً إلى تخوين أحد أعضائه، الأمر الذي شكّل طعنة في خاصرة الوفد المفاوض قبل انطلاقه بمعركته. إقرأ على موقع 180 لبنان: التدقيق الجنائي ينطلق.. وفرنسا تُدقّق بإحتياطي الذهب الخطأ الثاني عشر: ترك الجيش اللبناني وحيدًا في معركته مع العدو الإسرائيلي وعدم قيام السلطات السياسية اللبنانية، وتحديداً الحكومة، بواجباتها لمساندة الوفد المفاوض. خاض الوفد اللبناني أربع جولات تفاوض أظهر خلالها كفاءة عالية في شرح الخط اللبناني الجديد المستند إلى قانون البحار كما أظهر عدم قانونية الخط الإسرائيلي، الأمر الذي شكّل إرباكًا للوسيط الأميركي وللعدو الإسرائيلي الذي انسحب من المفاوضات. عندها وجد الفريق اللبناني أن السلاح الوحيد المتبقي له هو تعديل المرسوم 6433 وإيداعه الأمم المتّحدة لتوقيف عمل العدو الإسرائيلي في حقل كاريش وبالتالي إجباره على الرجوع إلى طاولة المفاوضات وانتزاع تنازلات منه لتحقيق الحدّ الأقصى من الحقوق اللبنانية. المفاجأة كانت في بروز سجالات وانقسامات حادة حول تعديل المرسوم، أبطالها مزايدون يدّعون الدفاع عن الجيش ومعظمهم ليس لديه الحد الأدنى من الإلمام بالموضوع فراحوا يتّهمون الآخرين بالخيانة، أو رافضون لتعديل المرسوم دون تبرير السبب بشكل علمي ودون تقديم البديل عن التعديل، الأمر الذي حوّل المعركة الوطنية مع عدونا إلى معارك داخلية. إن الوفد اللبناني ما زال يصارع وحيدًا بدعم واضح من الجيش اللبناني. لكن الملاحظة الوحيدة هي أنه يضع احتمالاً واحدًا فقط كنتيجة لتعديل المرسوم وهي إجبار العدو الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات، في حين أن الواقعية تفرض علينا وضع كافة الاحتمالات والتحضّر لمواجهتها كي لا نُفاجأ ونحن في وسط المعركة هنا أرى من الضروري التشديد على الحقائق التالية: أولاً: إن معادلة “من هو مع التعديل وطني ومن هو ضده خائن” هي معادلة خاطئة وغير مقبولة. ثانيًا: التجربة أظهرت بالدليل القاطع أن جميع السياسيين يخافون من تعديل المرسوم ولكنهم كانوا يتظاهرون برغبتهم بالتعديل واستفادوا من ذلك لتصويب سهامهم باتجاه خصومهم. ثالثًا: من المفترض أن يكون الخط (29) أصبح اليوم “خط الدولة اللبنانية” وليس “خط الجيش”. والإبقاء على هذه التسمية هي محاولة خبيثة من السياسيين للتلطي خلف الجيش اللبناني وإبقائه في مرمى سهامهم. رابعًا: إن الخط (29) هو للتفاوض والجميع يعرف أن الوفد اللبناني لن يستطيع التمسّك به. لذا، فإن محاولة البعض فرض شرط التمسك بهذا الخط على الوفد اللبناني هو عمل خبيث يهدف إلى عرقلة المفاوضات. خامسًا: لو اعتمد السياسيون اللبنانيون الخط (29) في العام 2011 لكانوا وفّروا على لبنان الكثير من المتاعب. إن الوفد اللبناني ما زال يصارع وحيدًا بدعم واضح من الجيش اللبناني. لكن الملاحظة الوحيدة هي أنه يضع احتمالاً واحدًا فقط كنتيجة لتعديل المرسوم وهي إجبار العدو الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات، في حين أن الواقعية تفرض علينا وضع كافة الاحتمالات والتحضّر لمواجهتها كي لا نُفاجأ ونحن في وسط المعركة خاصةً أننا بمواجهة عدو خبيث، طامع وغادر. من هذه الاحتمالات: سحب الولايات المتّحدة الأميركية وساطتها، ومتابعة العدو الإسرائيلي عمله غير آبه بتعديل المرسوم وإقدامه على تعديل خطّه بشكل عشوائي باعتماد الخط 310 درجات الذي سبق وهدّد به في الإعلام. ماذا سيكون عندها الموقف اللبناني؟ هل أن لبنان جاهز للدخول في حرب مع العدو الإسرائيلي وبالتالي مع الدول السبع الأعضاء في منتدى شرق المتوسط؟ هل نترك العدو الإسرائيلي يتابع استخراج النفط والغاز ونلجأ إلى محكمة العدل الدولية؟ هنا لا بد من طرح بعض الأسئلة الفرعية: ما هي نسبة نجاحنا في تحصيل حقوقنا عبر هذه المحكمة؟ ما هو الوقت الذي سيستغرقه صدور الحكم ومن يضمن التنفيذ؟ ما هي الكلفة المادية المطلوبة من لبنان لمتابعة الدعوى عبر هذه المحكمة؟ وهل أن لبنان قادر على تحمّلها في ظل الوضع المالي المهترئ؟ كل هذه الأسئلة بحاجة لأجوبة من أجل اتخاذ القرار بالتعديل أو عدمه. هذا الموضوع وطني بامتياز لذا يتطلّب قرارًا وطنيًا وليس قرار فريق ضد فريق آخر. من هنا أرى أن الحل الوطني المثالي هو التالي: عقد اجتماع فوري ومفتوح برئاسة رئيس الجمهورية ومشاركة جميع السلطات السياسية والعسكرية المعنية، على أن تتم الاستعانة بأفضل الخبراء اللبنانيين والدوليين إذا اقتضى الأمر، لدراسة الموضوع من جوانبه القانونية والسياسية والتقنية والعسكرية، من أجل إتخاذ القرار الوطني المناسب. في الخلاصة، معركة ترسيم الحدود البحرية هي معركة وطنية، إذا خضناها موحدين خلف جيشنا البطل.. سنربحها بالتأكيد، أما إذا بقينا منقسمين، فسنفوّت على وطننا وعلى أولادنا وأحفادنا فرصةً ذهبية هم بأمس الحاجة لها في ظل الوضع المأساوي الذي نعيشه. ختامًا، برغم أهمية معركتنا مع العدو الإسرائيلي جنوبًا، يجب أن لا نهمل حدودنا البحرية مع الشقيق السوري شمالاً. فهل سيتصرّف المسؤولون اللبنانيون ولو لمرة واحدة كرجال دولة ويحافظون على حقوقنا الوطنية؟ أم أنهم سيبقون عاجزين غير قادرين لا على كسب معركة مع العدو ولا على معالجة خلاف مع الشقيق؟