لا يمكن عزل حدث تاريخي عن تداعياته الحتمية، أو المحتملة. الحدث المرتقب هو الانسحاب الأميركي المقرر من أفغانستان في ذكرى مرور 20 سنة على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي أعقبها هجوم الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان وإطاحتها سلطة “طالبان” و”الإمارة الإسلامية” في هذا البلد.
قررت أميركا الآن المغادرة من دون شروط. هي لم تهزم على طريقة هزيمتها في فيتنام في أبريل (نيسان) 1975، لكنها اعتبرت أن ساعة الخروج قد حانت، فـ”لا حروب إلى الأبد” بعد اليوم، ولتترك الجبال الأفغانية لمصيرها الذي ستحدده على الأرجح حركة “طالبان” إياها، التي واصلت القتال لفرض نظامها الخاص منذ إطاحتها في 2001.
وعندما هزمت القوات الأميركية في سايغون، بقي عالقاً في الذاكرة مشهد الرحيل بالطوافات المزدحمة عبر سطح مبنى السفارة قرب كاتدرائية سايغون، وقبالة فندق “كارافيل” الفرنسي. هناك في الطابق الحادي عشر احتشد المراسلون الصحافيون ليراقبوا بمشاعر متناقضة نهاية المغامرة الأميركية في الهند الصينية. كانت الارتدادات التي أعقبت الخروج من المدينة التي ستحمل اسم الزعيم الفيتنامي هو شي منه، أكبر وأوسع من مجرد هزيمة محلية للقوة العظمى. في فيتنام، تولى الشيوعيون السلطة، ووحدوا بلادهم، وفي كمبوديا المجاورة استولى الخمير الحمر على الحكم وأطاحوا حكم الجنرالات الموالين لأميركا ليبدأوا تنفيذ أسوأ تجربة “شيوعية” في التاريخ. وفي أنحاء العالم تحركت مستعمرات نحو الاستقلال بعد سقوط أنظمة استعمارية قديمة. تحررت أنغولا وموزمبيق والرأس الأخضر بعد سقوط النظام الديكتاتوري في البرتغال. وفي الأعوام القليلة التالية، طاولت التغييرات القارة الأفريقية بأكملها، من إثيوبيا إلى الصحراء، واندلعت الحرب في لبنان. وبعد أربع سنوات على هزيمة سايغون، وفي عام واحد، كان على فيتنام أن تواجه هجوماً صينياً واسعاً سيغير توازنات المنطقة الهندية الصينية لاحقاً، وسيطر الإمام الخميني على إيران، وغزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان، حيث تستمر تداعيات غزوه وخروجه حتى اليوم، بما في ذلك تزامن انهيار الاتحاد السوفياتي مع انسحاب قواته من ذلك البلد في 1989.
علينا توقع ارتدادت مماثلة للانسحاب الأميركي المقرر، وعلى أميركا نفسها ضمن حدود يستوعبها نظامها السياسي المرن، وعلى العالم عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً.
فهذه الخطوة سيعتبرها خصوم أميركا بمثابة اعتراف بفشل مشروعها المعلن في “مواجهة الإرهاب، وتعميم الديمقراطية”، حسب أدبيات الإدارة في واشنطن، ليس في أفغانستان فحسب، بل في العراق الذي تم غزوه في سياق الحرب الأفغانية نفسها أيضاً.
في العراق، سلمت أميركا في عز حضورها، البلاد إلى “الجمهورية الإسلامية”، وهي بعد حرب العشرين عاماً بصدد إعادة أفغانستان إلى “الإمارة الإسلامية”! وسيعاني الأفغان كثيراً قبل أن يستعيدوا بلادهم الطبيعية كما كانت قبل الغزوين السوفياتي والأميركي، مثلهم مثل العراقيين الذي يكافحون اليوم من أجل بلدهم وحريته وسلامه واستقلاله.
لن تقتصر الشهية إلى السلطة ونشر التعاليم المذهبية الخاصة على التنظيم الأفغاني، فالإيرانيون جاهزون لمواصلة حركتهم على خط زعزعة المنطقة تحت عنوان إخراج الأميركيين منها. وهم يستعدون لكسب حصة في الصحن الأفغاني عبر الميليشيات التي أعدوها منذ سنوات. فتنظيم “فاطميون” الذي يضم الآلاف من اللاجئين الأفغان الشيعة، هو الجناح العسكري لـ”حزب الله” في أفغانستان، وقد تدرب في إيران، ومارس القتل والقتال منذ 2014 في سوريا.
قرار الانسحاب الأميركي جعل إيران تتحرك بسرعة، وفي وقت مبكر مطلع هذا العام، لتحذير “طالبان” من استعادة شعار “الإمارة” الذي يجعلها على طرف نقيض مذهبياً معها، فعرضت على كابول تعاوناً في مكافحة “الإرهاب” يشمل الاستعانة بـ”فاطميون”، الذي يتم وضعه بإمرة الجيش الأفغاني، كما هي حاله في سوريا، على حد قول وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي لم يستشهد بتجربة بلاده في لبنان أو اليمن، حيث أكلت الميليشيات السلطة.
وإذا لم يتم هذا التعاون هناك، على الأرجح، مشروع صدام بين إيران وطالبان ستسعى طهران لكبحه تحت عنوانها المفضل: محاربة الوجود الأميركي واستعادة القدس، وما إلى ذلك. وتعتقد طهران التي تستضيف عناصر وقيادات تنتمي إلى الفكر الذي تتبناه “طالبان”، أنها قادرة على توسيع جبهة حلفائها لتواصل حربها التفتيتية التوسعية في المنطقة العربية والإسلامية، بالشراكة مع التنظيم الأفغاني الذي يصعب عليه الخروج من جلبابه الأصلي.
لم توقف “طالبان” يوماً هجماتها ضد المؤسسات والنخب والمدارس في بلادها على الرغم من مواصلتها المفاوضات مع أميركا. وإيران تقوم بالأمر نفسه على جبهة أخرى، عربية، قبل المفاوضات، وخلالها، مع الأميركيين ومجموعة الاتفاق النووي. وهي صعدت عبر أذرعها في العراق واليمن هجماتها على المقرات والمطارات والقوافل العسكرية العراقية والأميركية في العراق، وعلى الأراضي السعودية انطلاقاً من اليمن، ولا يخرج عن السياق ادعاء إيران المسؤولية عن التصعيد من الأراضي السورية في اتجاه إسرائيل في عملية إطلاق الصاروخ قبل أيام.
لن تكون الجمهورية الخمينية وحدها في ساحة ما بعد الانسحاب. روسيا ستحاول ملء الفراغ، وهي حاضرة بقوة في سوريا. قد تكون عامل التوازن المقبل بالاتفاق مع أميركا، لكن إيران ستعمل على استكمال ما بدأته. الضغط لخروج الأميركيين من العراق وسوريا وتكرار الطروحات حول أمن “الخليج الفارسي…”.
سيتيح الانسحاب الأميركي غير المشروط من أفغانستان ما ستتيحه عودتها غير المشروطة إلى الاتفاق النووي. وسنشهد على الأرجح مزيداً من الفوضى من أفغانستان، وصولاً إلى البحرين المتوسط والأحمر، وستسارع إيران إلى استغلال ذلك، ما يجعل الانكفاء الذي أكده الرئيس الأميركي جو بايدن مدخلاً لخراب عميم لا يمكن منعه إلا بسياسات استباقية خلاقة تقرها وتنتهجها الدول العربية الفاعلة بالتفاهم مع القوى الدولية، وفي المقدمة منها أميركا نفسها، وبالاعتماد على نفسها أولاً وأخيراً.