البناء
لا يتصل الأمر بسوء النية وروح العداء فقط، بالمحاولات المتواصلة منذ عشر سنوات الحرب على سورية، لتصوير سورية فاقدة للقرار، وتصوير تحالف سورية مع روسيا وإيران وقوى المقاومة، كتعبير عن تبعية سورية مرة لروسيا ومرة لإيران. فالغباء يلاقي الحقد في القراءة السياسية، التي تجعل المصابين بالحقد او البغاء او كليهما معاً، ضحايا عماهم، فيواصلون ارتكاب الأخطاء.
خلال السنوات التي سبقت بدء الهجوم المعاكس لسورية على أعدائها المتعدّدي الجنسيات والألوان والأسباب والمصالح والعقائد، والتي يمكن تسميتها بسنوات الصمود السوري، بدا واضحاً أن الصمود السوري يتم بمواجهة حرب حشد لها جيشٌ عالميٌّ نظّمته وموّلته ورعته دول كبرى في العالم والمنطقة، تقاطعت فيه بصورة مباشرة، على الأقل، واشنطن وباريس ولندن، وأنقرة والرياض والدوحة وتل أبيب، فيما كان الدعم الروسي والإيراني محدوداً على الصعيد العملي باستثناء حضور حزب الله الوازن الى جانب الجيش السوري.
كان واضحاً أن الرئيس السوري بشار الأسد قد رسم لهذه المرحلة عنوانين، الأول هو إثبات مشروعية حربه أمام السوريين وغير السوريين، بصفتها حرباً على الإرهاب ومحاولة لتغيير موقع سورية في المنطقة الأهم من العالم وصولاً إلى تفتيتها، والثاني هو إثبات إمكانية تحقيق النصر في هذه الحرب، ولا يستطيع أي مراقب إلا أن يشهد أن التفاعل الروسي والإيراني الذي تحول الى مشاركة كاملة في هذه الحرب كان نتاج هذه الرؤية التي رسمها الرئيس الأسد.
خلال السنوات الخمس الثانية من الحرب، بعد تبلور الإرادة الروسية والإيرانية للانخراط إلى جانب سورية، تحولت استراتيجية الرئيس السوري الى هدفين جديدين، الأول هو بدء الهجوم المعاكس وصولاً لتحرير الأراضي السورية التي وقعت بيد الجيش المتعدد الجنسيات للإرهابيين والانفصاليين، المدعوم من جبهة عالمية متعددة العواصم، وصولاً إلى تفكيك هذا الجيش والجبهة التي تقف خلفه، والثاني هو إعادة بناء مقدرات الجيش السوري خصوصاً على مستوى الدفاع الجوي، لقطع الطريق على أي مكاسب استراتيجية يخرج بها كيان الاحتلال على حساب سورية بالقياس للمعادلات التي كانت قائمة قبل الحرب كحد أدنى، وتثبيت المكاسب التي حققها محور المقاومة خلال الحرب، باعتبارها قيمة مضافة لنصر سورية.
نجح الرئيس الأسد في الخمس الثانية كما نجح في الخمس الأولى، والمشهد السوري يقول لجهة مستقبل جيش الإرهاب المتعدد الجنسيات وعواصم الحرب، أن التفكك والتراجع هما السمة الجامعة، وقد خاض الأسد غماره بتؤدة وصبر وعناية، فحقق الهدف دون تعريض تحالفاته للتصدع، كما فعل في الخمس الأولى، وتحمّل وتحمّل معه السوريون الكثير من التضحيات في طريق إنضاج مواقف الحلفاء لصالح رؤيته في محطات متعددة، فماذا عن بناء مقدرات الدفاع الجوي السورية؟
بعدما تكفل الجيش الإرهابي المتعدد الجنسيات في الخمس الأولى بتفكيك عدد كبير من منصات شبكات الدفاع الجويّ السورية وراداراتها بطلب مباشر من كيان الاحتلال، حيث كانت مواقع الرادارات والصواريخ هدفاً أول لا تفسّره الادعاءات الداخلية لما سُمّي بفصائل المعارضة، من جنوب سورية الى شمالها، وكان واضحاً في الخمس الثانية أن تطوراً متسارعاً لإعادة البناء لهذه المقدرات يقع في أولوية اهتمامات الرئيس الأسد، حيث نجح الدفاع الجوي بفرض معادلة حرمة الأجواء السورية على طائرات جيش الاحتلال عام 2017 بإسقاط أول طائرة بصاروخ دفاع جوي سوري، ليرسم منذ ذلك الحين معادلة التعامل مع الغارات من خارج الأجواء السورية بالتصدي لها بالصواريخ السورية الدفاعية، حتى جاء صاروخ ديمونا، سواء كان صاروخ دفاع جوي أو صاروخ أرض أرض، أو كان إطلاقه قد تم بيد سورية أو إيرانية، فهو صاروخ الأسد للقول إن مرحلة جديدة قد بدأت، لن تمر معها الغارات من دون ردّ يطال عمق الكيان ومنشآته الأشد خطراً وحيوية، ومن دون إسقاط طائرات حتى لو كانت الغارات من خارج الأجواء السورية، وأن ينجح الأسد باستثمار التحالف مع روسيا وإيران لتحقيق هذا الهدف فتلك تُحسب له لا عليه، فسورية هي الموجودة على تماس جغرافي غير قابل للتعديل مع فلسطين المحتلة، وهي صاحبة الجولان المحتل، وهي المعرّضة بأرضها وشعبها ومنشآتها للعدوان.
ليست صدفة ان يكرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والإمام علي الخامنئي في وصف الرئيس السوري تعابير متشابهة، فيقول بوتين لو وجد رئيس لأوكرانيا بنصف صفات الأسد لتغيّر المشهد الأوروبي، ويقول الخامنئي، لو قيّض للعراق زعيم بنصف صفات الأسد لتغير مشهد المنطقة.
الذين يخاصمون والذين يحالفون، الذين يحبون والذين لا يحبون، عندما يشتغلون في السياسة معنيّون بحسن القراءة تجنباً للوقوع في الأخطاء القاتلة.