لطالما خضع ملف النفط والغاز لمنطق المزايدة السياسية الداخلية وللحسابات الإقليمية لهذا الفريق أو ذاك منذ ثلاثة عقود. ومع الاكتشافات الحديثة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخطط مد الأنابيب إلى أوروبا، أخذ الأمر بعداً أكثر أهمية في التنافس على النفوذ في تجارة الطاقة وصار عاملاً رئيساً في الجغرافيا السياسية للمنطقة. منذ أواخر التسعينات حين جرت عمليات المسح الأولي للشاطئ اضطر الرئيس الراحل رفيق الحريري الى تجميد مشاريع الاستكشاف في البحر نتيجة عدم استساغة الوصاية السورية في حينها فتح هذا الملف الذي كان سيعطي لبنان قدراً من الاستقلالية والقدرة التنافسية مع منابع الطاقة السورية، إلى حين تسمح الظروف بذلك.
يعود رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إلى تأبط ملف الغاز والنفط وترسيم الحدود البحرية الذي أُبعد عنه بفعل استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري في 29 تشرين الأول 2019 بعد أن صال وجال به في عدد من العواصم موزعاً الوعود والإغراءات حول استثمار الثروة الدفينة في عرض البحر، شرقاً وغرباً، رابطاً إياه بطموحاته السياسية. وهو لم يكن الوحيد الذي تنبه إلى ذلك من بين الفرقاء الذين دخلوا المراهنة على المنافع سواء السياسية أو الاستثمارية، من الذهاب قدماً في الملف. فرئيس البرلمان نبيه بري تنبه باكراً إلى مستقبل هذا القطاع وتابعه بدقة، وشكل فريقاً عمِل بطول أناة عليه، واستشار لبنانيين يتمتعون بخبرة عالمية إن تقنياً أو على الصعيد الاستثماري، وصولاً إلى خطوات تحضيراً للبنية التحتية وللقدرات البشرية.
إلا أن باسيل اعتبر السبت الماضي أن “هذا الملف بدأ جدياً معنا”، مصادراً كعادته في سائر الملفات، رصيد من سبقه، سواء الحريري الأب، أو بري أو حتى من سبقهما من الخبراء اللبنانيين (أحدهم المهندس غسان قانصوه)، فاتهم “المسؤولين بالتقاعس عشرات السنين عن عمل شيء”. بلغت حاجته إلى تعويم نفسه إزاء إخضاعه للعقوبات الأميركية وتراجع شعبية تياره وفشل العهد الرئاسي الرازح تحت ثقل الأزمة المالية الاقتصادية غير المسبوقة، حد اختراع طريقة للعودة بالملف إلى بداية البداية، عن طريق اقتراحه أن “يشكل لبنان سريعاً وفداً مفاوضاً برئاسة ممثل عن عون وعضوية ممثلين عن رئيس الحكومة والخارجية والأشغال والطاقة والجيش، لاستكمال التفاوض مع اسرائيل والاتفاق على خط جديد بين خط Hoff والخط 29… يرسمه خبراء دوليون، عبر شركة أميركية متخصصة”.
لم يجد العارفون ببواطن الأمور تفسيراً لهذا الاقتراح سوى استدراج عروض منه للجانب الأميركي موحياً بأن الفريق الرئاسي هو الأقدر على إنجاز الترسيم، مستبقاً بذلك ما توصل إليه بري ضمناً في المفاوضات التي كانت دائرة والتي انتهت إلى اتفاق مبدئي بقي طي الكتمان، على أن يحصل لبنان على كامل حصة الـ860 كيلومتراً مربعاً التي كان متنازعاً عليها مع إسرائيل، أي على أكثر مما اقترحه خط هوف في العام 2014 والذي كان وراء إعلان رئيس البرلمان عن إطار التفاوض في 1 تشرين الأول الماضي. وهذا سبب اعتراض بري على خريطة الوفد اللبناني المفاوض التي وسعت حدود لبنان من الخط 23 إلى 29، في وقت يؤكد العارفون بالملف أنه جرى التسليم بحصول لبنان على المنطقة الاقتصادية الخالصة حتى الخط 23.
تحت شعار أن “لا احد من اللبنانيين يسعى لخلق مزارع شبعا بحرية”، يقوطب باسيل على بري، ويوحي أنه لن يكرر مزارع شبعا البرية التي ابتدعتها دمشق وتمسك بها “حزب الله” كي تبقى “المقاومة”.