البروفسور جاسم عجاقة-الديار
لا نُبالغ إذا ما قلّنا إن هيئة التحقيق الخاصة، وهي مؤسسة مُستقلة داخل مصرف لبنان، تُشكّل عنصراً أساسياً في عملية إندماج لبنان عموديًا في الإقتصاد العالمي. فالمعروف أن العالم ومنذ عقود يكافح على جبهة مُكافحة تبييض الأموال الناتجة عن أموال غير مشروعة حددها القانون 318/2001 بتجارة المخدّرات، والأموال الناتجة عن العصابات، وجرائم الإرهاب، وجرائم السرقة وإختلاس الأموال العامّة، وتزوير العملة أو الأسناد العامّة. وألزم القانون المؤسسات الخاضعة لقانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 القيام بمراقبة العمليات التي تجريها مع زبائنها لتلافي تورّطها بعمليات يمكن أن تخفي تبييضاً لأموال ناتجة عن الجرائم المحددة في القانون. وأناطت المادّة السادسة من هذا القانون مُهمّة الرقابة على تطبيق إجراءات مكافحة «لهيئة مُستقلة ذات طابع قضائي تتمتع بالشخصية المعنوية وغير خاضعة لسلطة مصرف لبنان» ولا تسري عليها السريّة المصرفية، وأعطتها إسم «هيئة التحقيق الخاصة». وتتألف هذه الهيئة من الحاكم (أو من ينتدبه من نوابه) رئيسًا، رئيس لجنة الرقابة على المصارف، القاضي المُعيّن في الهيئة المصرفية العليا، عضوًا أصيلا وأخر رديفًا مُعين من قبل مجلس الوزراء.
القانون الذي تمّ إقراره قبل هجمات 11 أيلول الإرهابية، لم يعدّ يُلبّي المُتطلبات الدولية وخصوصًا الأميركية، كما أن مُعاهدة الأمم المُتحدة حول مُكافحة الفساد (وقّع عليها لبنان في 22 نيسان 2009)، فرضت مُعطيات جديدة لتصويب إندماج لبنان في النظام المالي والإقتصادي العالمي.فعقب هجمات 11 أيلول الإرهابية وتحت ضغط الولايات المُتحدّة الأميركية، نشأت فكرة إنشاء «غافي» الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نظرًا إلى الإتهامات التي تمّ توجيهها إلى الدول العربية التي كان بعضها على لائحة الدول غير المتعاونة (مثل لبنان). وبالتالي بدأت سلسلة من الإجتماعات ضمن فريق عمل عُرف باسم مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في دول الـ MENA. وترأس لبنان بشخص رئيس هيئة التحقيق الخاصة رياض سلامة هذه المجموعة، التي ضمّت 41 دولة، في عامها الأول. هنا لا بد من الإشارة إلى أن ترؤس لبنان هذه المجموعة كانت نتيجة عمل هيئة التحقيق الخاصة والجدّية التي تعاطت بها.
ضغوطات «غافي» وقانون «فاتكا» و «غاتكا» أدّت إلى إقرار لبنان مجموعة من القوانين في العام 2015 وعلى رأسها القانون 44/2015 المعروف بقانون «مُكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب» والذي وسّع مفهوم الأموال غير المشروعة في مادّته الأولى ليُغطّي كل أنواع الجرائم المنصوص عليها بشرعة حقوق الإنسان ولكن أيضًا مُعاهدة مُكافحة الفساد. وبالتالي تمّ توسيع نطاق تطبيق القانون 318/2001 كما وصلاحيات الهيئة.
الجدير ذكره أن المصارف المراسلة تشترط على المصارف اللبنانية تبيان إجراءات مُكافحة تبييض الأموال للقبول بفتح حسابات لها، إضافة إلى هذا المطلب تشترط هذه المصارف أن يكون البلد – أي لبنان – غير مُدرجّ على لائحة الدول غير المتعاونة. وبالتالي فإن هيئة التحقيق الخاصة تُشكّل الضمانة في الحالتين نظرًا إلى آلية الرقابة التي يفرضها وجود السرية المصرفية.
عمل الهيئة لم يلقَ أي إنتقاد على الصعيد الدولي، لا بل على العكس كان هناك تعاون كبير من قبل لبنان مما فتح أمامه أبواب الإندماج في الاقتصاد العالمي وفي النظام المالي العالمي. لكن على الصعيد الداخلي وخصوصًا بعد 17 تشرين الأول 2019، بدأت الإنتقادات توجّه إلى هيئة التحقيق الخاصة بإستنسابية التعاطي مع الملفات وهو ما دفع القوى السياسية إلى طرح تعديلات في عمل الهيئة من باب قانون السرية المصرفية.
المعلومات تُشير إلى أن توجّهات القوى السياسة هي بإضافة جسمين في أعلى هرم هيئة التحقيق الخاصة: القضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد! وهذا أمر لا يُبشّر بالخير خصوصًا أن العامل السياسي سيدخل حُكمًا إلى عمل هذه المؤسسة التي مضت إتفاقيات تعاون مع هيئات خاصة في 40 دولة وحصدت ثقة المؤسسات الدولية التي سمحت للمصارف اللبنانية بتوسيع رقعة تعاملاتها.
هناك إحتمالان وراء طرح التعديل في القانون 44/2015:
أولا- يُمكن أن يكون تقييم القوى السياسية لعمل اللجنة (من خلال ممثّليهم في المجلس النيابي) قد أوصل إلى نتيجة أن عمل الهيئة كان غير كافٍ، وفي هذه الحالة الطرح الذي يتمّ درسه هو غير مؤاتٍ، لأسباب سنذكرها لاحقاً. معنى ذلك أن هذه المؤسسة ستكون تابعة لا مستقلة، إضافة إلى أن هذه التبعية ستكون سياسية لا فنية محترفة. وهذا سيؤدّي حتماً إلى فقدان ثقة المؤسسات الدولية بهذه المؤسسة التابعة وعدم استقلاليتها في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إضافة إلى الإثراء غير المشروع، وهذا أمر يعني إستحالة بقاء لبنان في المنظومة المالية العالمية. لذا لا يُمكن إلا طرح ما قد يُعطي الهيئة دفعًا إلى الأمام وليس وما يُعطّل عملها.
ثانيًا – ترى القوى السياسية في هيئة التحقيق الخاصة أداة يُمكن إستخدامها في الصراعات السياسية لذا يجب السيطرة عليها في المرحلة المُقبلة، من هنا تحاول تكبيلها بوضع طبقة عليها ستُفقدها حكمًا إستقلاليتها التي تتمتّع بها، ومن ثم تُمعن في تغطية مصالحها.
وفي كلا الحالتين نرى أن التعديل المطروح – أي وضع القضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد فوق هيئة التحقيق الخاصة – هو طرح غير مناسب للأسباب التالية:
أولا – هناك توجّه لدى القوى السياسية لرفع السرية المصرفية عن موظّفي القطاع العام والأشخاص الذين يتعاطون الشأن العام، وهو أمر مطلوب وضروري على كل المستويات. إلا أن المُشكلة هو أن وضع القضاء في آلية التحقّق من عمليات تبييض الأموال وفساد مما يعني التشهير بالأشخاص من القطاع الخاص (غير المشمول برفع السرية المصرفية) نظرًا إلى أن المحاكمات علنية. ناهيك عما ثبت عبر الأحداث المتعاقبة من التدخّل السياسي في عمل القضاء والذي ظهرت عوارضه في شكل فاضح في المرحلة الماضية.
ثانيًا – وضع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على رأس هذه اللجنة يعني التعطيل السياسي البحت لعمل هيئة التحقيق الخاصة خصوصًا أن الصراعات السياسية منعت تعيين العديد من اللجان الوطنية. وبالتالي يبرز سؤال مريب هنا هل المُراد حقيقة من هذا الطرح تعطيل عمل هيئة التحقيق الخاصة؟
ثالثًا – كيف سيتمّ تحليل المعلومات في حال كانت هناك العديد من الجهات التي ستتلقى هذه المعلومات؟ عمليًا هناك شبه إستحالة لعملية التحليل إذا لم تكن مركزية كما هو الأمر حاليًا خصوصًا أن القانون 44/2015 أعطى هيئة التحقيق الخاصة صلاحية مُخاطبة المصارف والجهات الدولية مباشرة وبالتالي تمتلك هذه الهيئة نظرة transversal للمعلومات تسمح لها بتحليل معلومات تطال أي مُشتبه به دون التشهير به حتى ثبات الجرم حينها تطلب الهيئة رفع السرية المصرفية وتُحوّل الملف إلى القضاء.
لقد قامت لجنة العدل في المجلس النيابي بتكليف النائب جورج عقيص مُهّمة تحضير دراسة عن تعديل قانون السرّية المصرفية، وهو ما قام به حيث قدّم دراسة من 6 صفحات إحتوت على رؤية (برأينا منطقية إلى حدٍ مُعيّن) للتعديلات على قانون السريّة المصرفية على أن تقوم اللجنة بدراستها إبتداءً من اليوم. وتضمّ هذه التعديلات:
أولاً – إلزام تصريح المصارف عن زبائنها في حال طلب الشخص أو ورثته، أو أعلن الإفلاس أو كان هناك دعوى بحقّه؛
ثانيًا – رفع السرية المصرفية عن الموظّف العمومي، ورؤساء الجمعيات التي تتعاطى نشاطًا سياسيًا، ورؤساء وأعضاء مجالس الإدارات في وسائل الإعلام، والمرشحين للإنتخابات النيابية، وأزواج الأشخاص السابق ذكرهم؛
ثالثًا – تحديد آلية رفع السرية من خلال: قرار من هيئة التحقيق الخاصة (عملا بالقانون 44/2015)، وقرار من هيئة التحقيق الخاصة بناءً على طلب من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (عملا بالقانون 175/2015)، وقرار من قضاء الحكم المُختصّ في الجرائم الأخرى غير المنصوص عليها في القانون 44/2015؛
رابعًا – يبقى رفع السرية ساري المفعول حتى بعد إستقالة أو إنتهاء عمل أو تقاعد الأشخاص الآنفة الذكر عن كل الفترة التي توّلوا فيها مهامهم، كما وتسري على كل من تولّى سابقًا مهاماً رسمية؛
خامسًا – لا يُمكن التذرع بالسرية المصرفية لمنع كشف المعلومات عن الأشخاص المُصنّفين أعلاهم وهذا يشمل المديرين في المصارف وحتى الموظّفين تحت طائلة الحبس مدّة سنة مع غرامة تتراوح بين 100 و200 مليون ليرة لبنانية. – انتهى –
عمليًا، هذا الطرح جيّد شرط أن تبقى مركزية المعلومات تحت سيطرة هيئة التحقيق الخاصة نظرًا إلى أهمّية هذه المركزية ومنع تسريب المعلومات التي قدّ يتمّ تسريبها عن الأشخاص غير المعنيين برفع السرية المصرفية وإلا تُصبح السرية مصرفية ظاهرية ومفرّغة من معناها وبالتالي يصير الأولى رفعها بالكامل.
على صعيد إقتصادي آخر، ظهر إلى العلن مُشكلة جديدة تمثّلت بضبط الجمارك السعودية لكميّات كبيرة من المُخدّرات في كونتنرات الرمان المصدّرة إلى المملكة العربية السعودية. وبحسب السلطات السعودية، هذه ليست المرّة الأولى حيث قامت بإرسال طلبات متتالية إلى الجانب اللبناني للتشدّد في عملية مراقبة الشحنات التي تنقل البضائع والسلع إلى المملكة. إلا أن الحجم الهائل للكمّية المضبوطة دفع بالسلطات السعودية إلى منع الإستيراد من لبنان ومنع مرور الشاحنات القادمة من لبنان من المرور على أراضيها بإنتظار ضمانات من الجانب اللبناني، وتبعتها الكويت والبحرين في هذا الإجراء. وهنا يُطرح السؤال عن نوع الضمانات التي تطلبها السلطات السعودية لوقف قرار قد يُكلّف لبنان ما يقارب الـ 930 مليون دولار أميركي سنويًا خصوصًا أن الدول الخليجية الأخرى بدأت تأخذ مواقف مُطابقة للموقف السعودي؟ عمليًا الضمانات هي على ثلاثة مستويات: أولا إشراك مسؤولين أمنيين من الجمارك السعودية في عملية التحقيق التي تُجريها السلطات اللبنانية، ثانيًا وضع آلية خاصة للرقابة على الشاحنات المُتوجّهة إلى الخليج، وثالثًا ضمانة سياسية لا يستطيع تقديمها إلا حكومة أصيلة.
الجدير ذكره أن هناك بعض القطاعات الزراعية التي تعتمد بشكل حصري على التصدير إلى السعودية وهذا الأمر يُشكّل ضربة كبيرة لهؤلاء وبالتالي أي تخاذل في تأمين الضمانات المطلوبة سيؤدّي حكمًا إلى ضرب الاقتصاد اللبناني في وقت يحتاج فيه لبنان إلى كل دولار تصدير.
على صعيد الدولار الأميركي، يشهد سعر صرفه في السوق السوداء نوعًا من الهدوء، أغلب الظنّ أنه «مقصود» في هذا الشهر الفضيل. وتُشير معلومات الديار إلى أن المنصة الإلكترونية المنوي إطلاقها لإمتصاص الطلب المؤسساتي في السوق السوداء، سيتمّ إطلاقها الإثنين المُقبل (3 أيار) بعد أن يوافق المجلس المركزي لمصرف لبنان على التعديلات التي تطال آلية عمل هذه المنصة. في هذا الوقت تستمر عملية تأهيل موظّفين من القطاع المصرفي لإستخدام هذه المنصّة وهو ما يدّل على جدّية عملية الإنطلاق. ويبقى السؤال الأساسي: هل سينخفض سعر صرف الدولار على هذه المنصّة؟ الجواب مرهون بعملية التهريب. فمع تحسّن القدرة الشرائية لليرة السورية مُقابل الدولار الأميركي، ستزيد حكمًا عملية التهريب وهو ما يفرض على القوى الأمنية والأجهزة الرقابية تكثيف عملها الرقابي تحت طائلة ضرب السوق اللبناني أكثر. وإذا ما وفّرت المنصّة سعر صرف دولار أقل من السوق السوداء، فإن عملية التهريب ستتعاظم أكثر وسيتمّ إستخدام المنصة لتمويل التهريب مع ما يرافق ذلك من حرمان المواطن اللبناني من ماله وقوته إضافة إلى التحول المتعمد لخرق قانون قيصر.
فأي مسلك متهاوٍ تسير فيه البلاد؟ وهل صار اللبناني يهوى قتل نفسه؟