كيف تتعامل واشنطن مع تطورات الأزمة في لبنان؟

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة


تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز حضورها في الملف اللبناني عبر آليات عديدة لا تقتصر فقط على فرض عقوبات على بعض الأطراف مثل حزب الله، وإنما تمتد أيضاً إلى إجراء زيارات لمسئولين أمريكيين إلى بيروت، كان آخرها الزيارة التي قام بها وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشئون السياسية ديفيد هيل خلال الفترة من 13 إلى 15 أبريل الجاري. إذ هدفت الزيارة إلى توجيه رسائل عديدة إلى الداخل اللبناني، من بينها التعبير عن قلق واشنطن من تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء البلاد، وتداعيات المأزق السياسي الذي يساهم في ذلك.

ملفات عديدة:

شملت الزيارة إجراء مباحثات حول عدد من الملفات المتعلقة بالأزمة التي تواجهها لبنان، وخاصة عرقلة تشكيل الحكومة، لاسيما بعدما شهدت لبنان العديد من التحركات الدبلوماسية والسياسية التي لم تسفر عن جديد، وبالتالي جاءت الزيارة في إطار محاولة إلقاء الضوء على الحضور الأمريكي في الأزمة اللبنانية، وذلك لاحتواء ما يثار حول أن لبنان ليست على أجندة الإدارة الأمريكية. إلا أن اختيار ديفيد هيل تحديداً للقيام بها يطرح عدة دلالات، أهمها أن المسئول الأمريكي له علاقات بالعديد من المسئولين اللبنانيين، نظراً لتوليه مهام في لبنان أكثر من مرة، وبالتالي فهو الأكثر قدرة على تمرير الرسائل الأمريكية للداخل اللبناني، وذلك في ظل فشل جميع المساعي الدولية لدفع عملية تشكيل الحكومة، وانعكس ذلك في لقاءاته المتعددة بالسياسيين اللبنانيين من جميع الأطياف، من بينهم بعض كوادر قوى “8 آذار” (حركة أمل- تيار المردة). ومع ذلك، فإن قرب انتهاء مهام المسئول الأمريكي يمثل- وفقاً لتقارير عديدة- مؤشراً يعزز رؤية بعض الاتجاهات التي تقوم على أن دعم لبنان لا يدخل ضمن أولويات الإدارة الأمريكية، في ظل إحجام مسئوليها عن ممارسة ضغوط أقوى من أجل إنهاء عملية الجمود السياسي الحالية.

ويبدو أن الهدف الرئيسي من زيارة هيل إلى لبنان قد تحقق، وهو وقف توقيع مشروع تعديل المرسوم 6433 لعام 2011، والذي يقضي باعتماد الخط رقم (29) بدلاً من النقطة (23) عند ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والذي يضمن حفظ حق لبنان بـ2290 كلم2 بدلاً من 860 كلم2 (المنطقة المتنازع عليها)، وبما يضيف عقبة جديدة في المفاوضات بين البلدين، وقد اعترضت تل أبيب بشدة على ذلك، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط لوقف ذلك التعديل، وهو ما لاقى تجاوباً من جانب الرئيس ميشال عون، الذي أبدى- حسب تقارير عديدة- شكوكاً في قانونية المشروع وقام بنقل الملف إلى الحكومة باعتبار أن التعديل يحتاج إلى قرار يتخذه مجلس الوزراء مجتمعاً وفقاً لرأى هيئة التشريع والاستشارات، فيما اعتبرته قوى أخرى محاولة من جانبه لدعم حكومة تصريف الأعمال وعدم تهيئة المجال أمام وقف المفاوضات مع إسرائيل.

مواجهة موسكو:

في السياق ذاته، تأتي زيارة هيل لدعم لبنان في مواجهة محاولة سوريا اقتطاع جزء من المياه اللبنانية لصالحها، حيث صادقت دمشق في 9 مارس 2021 على اتفاقية وقعتها مع شركة “كابيتال” الروسية، يتم بمقتضاها تلزيم البلوك رقم (1) في المياه السورية بالبحر المتوسط للشركة الروسية، علماً بأن هناك تداخلاً بين ذلك البلوك وبلوكات لبنان البحرية (1 و2) بمسافة تُقدر بنحو 750 كلم2، مما يوفر مزيداً من الحضور الروسي في البحر المتوسط، وهو الأمر الذي يشكل أزمة لواشنطن التي ترفض التوسع الروسي في المنطقة، وخاصة في مجال الغاز الطبيعي، والذي يستهدف بالأساس دفع الدول الأوروبية للاعتماد على الغاز الروسي بشكل أكبر (بلغت نسبة واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي في عام 2019 نحو 45% من إجمالي وارداتها من الغاز)، وهو ما يتناقض مع التوجه الأمريكي الرامي لحصار تنامي النفوذ الروسي، وضعاً في الاعتبار أن هناك تحركاً روسياً مكثفاً تجاه لبنان.

شواغل تل أبيب:

فضلاً عن ذلك، جاءت الزيارة في إطار تقييم مدى إمكانية اتجاه إيران لاستخدام الساحة اللبنانية عبر حزب الله كمنصة للهجوم على تل أبيب، وذلك في ظل التصعيد الأخير بينهما نتيجة الانفجار الذي تعرضت له منشأة “نطنز” النووية، وتهديد سفن كلا البلدين، وكان آخرها ما تعرضت له إحدى السفن التابعة لإيران بالقرب من مصفاة بانياس السورية من هجوم تم تنفيذه، على ما يبدو، بواسطة طائرة من دون طيار في 24 أبريل الجاري.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليس لها مصلحة في نشوب أزمات جديدة على الحدود الشمالية لحليفتها الأولى في المنطقة، كما أن حدوث مواجهات بين حزب الله وإسرائيل قد يكون له تأثير سلبي على التحركات الأمريكية لإعادة التفاوض حول الاتفاق النووي مع طهران، وهو ما لن يصب في صالح المنطقة ولبنان خاصة. وفي هذا السياق انتقد هيل أثناء زيارته تقويض حزب الله وإيران لعملية تشكيل الحكومة والدولة اللبنانية، مما يعطي انطباعاً بأنه ليس هناك تغير في السياسة الأمريكية تجاه الحزب، على عكس ما تزعم بعض التقارير التي تشير إلى احتمال فتح قنوات تواصل بين الطرفين.

في النهاية، يمكن وضع زيارة هيل إلى لبنان في إطار التوجه الأمريكي الجديد إزاء قضايا المنطقة بعد تولي جو بايدن الرئاسة، والذي يقوم على تحديد خريطة طريق تتضمن اتجاهات العلاقات مع دول المنطقة، على غرار إيران وتركيا، وهو ما عبرت عنه مراكز الأبحاث الأمريكية التي تناولت ملفات المنطقة التي سوف تحظى باهتمام خاص من جانب واشنطن خلال الفترة المقبلة، حيث وضعت لبنان في مرتبة متأخرة في سلم الأولويات الأمريكية، خاصة وأن هناك تصوراً أمريكياً يعتمد على أن حل الأزمة اللبنانية يكمن في الوصول إلى تسوية شاملة مع إيران لاحتواء تنامي نفوذها في الشرق الأوسط، وهو ما لا يبدو أنه سوف يتحقق حتى في حالة نجاح مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي.

Exit mobile version