–د.عمران زهوي–كاتب وباحث
–جريدة اللواء
يظهر العالم العربي، على الخريطة، واقعا بين كماشتين: إيران وتركيا. هذا عن الجغرافيا، فماذا يقول التاريخ؟ قبل الإسلام، كانت إمارة الغساسنة في الشمال، وإمارة المناذرة في الجنوب. الإمارتان العربيتان، معاً، ظلتا تابعتين للنفوذين، البيزنطي والفارسي، إلى أن تغيرت الأوضاع الجيوبوليتيكية بقدوم الإسلام.
من واقع الغساسنة والمناذرة، الى ما قبل بعثة النبي محمد، هو ما بتنا نتابعه، من تسابق «عرب اليوم» على خدمة مصالح الآخرين. لقد ظلت الخريطة ذاتها، مع ظهور فاعل جديد: الكيان الصهيوني. الحديث عن ثلاث كماشات، في سياقنا العربي هذا، صار في حكم الثابت. لنُهمِل تدخل الفاعل الجديد لاننا نعمل اهدافه المعلنة وغير المعلنة، وبالتركيز على الأخيريْن، فهل هناك إمكانية لوجود تحالف بينهما، في أفق الحدّ من نشاط الفاعل الصهيوني ، ومن خلفه الدّاعم الأميركي. والسؤال الكبير، الذي يمكن طرحه، بهذا الخصوص: ما الذي يحول دون حدوث تحالف استراتيجي، تقوده كل من تركيا وإيران؟
مهما أوغل الماضي في البُعد، ما يلبث أن يعود، لمجرّد انبعاث شرارة ما في الأفق. غالبا ما نتناسى حين نتفق، ونتذكر حين نختلف. على كل حال، التاريخ كالماء، لا بد له من منفذ ليتسرّب.
التوسع الإقليمي، والاستئثار بالنفوذ، كانا يكتسيان طابعا مذهبيا. في هذا الامتداد الإقليمي الشاسع، كانت إيران راعية الشيعة، في حين كانت تركيا راعية السُّنة. انطلاقا من هنا كان اللاعب الصهيواميركي يشدد على النعرات الطائفية وعلى قاعدة (فرق تسد). لحامل لواء العثمانيين المتأخر، «الثعلب» أردوغان، وتركيا المعاصرة، مع حنق شديد من الثلاثي: السعودية، مصر والإمارات.
تنكفئ السعودية على ذاتها، عاما بعد آخر، جرّاء أخطاء استراتيجية. انكفاؤها الملحوظ ذاك هو ما يمنح حرية الحركة والمبادرة لفاعلين أقلّ حجما، الإمارات تحديدا. وفي المقابل، تبدو تركيا، بتاريخها ومجْدها الإمبراطورييْن، إضافة إلى نهضتها الاقتصادية والعلمية الضاربة، أكثر تأهيلا للاضطلاع بلعب دور محوري في الساحة: في شمال إفريقيا، والبحر المتوسط، والشرق الأوسط العربي، وحتى القوقاز. فقط، هناك ملاحظة ينبغي إبداؤها، أن الزعامة السُّنِّية لتركيا، مع حزب العدالة والتنمية، أخذت تكتسي لَبوسا «إخوانيا». والملاحظ أن هذا «اللّبوس»، بقدر ما يُساعد في توطين «أقدام» تركيا في مناطق، فهو يشكل عامل تعطيلٍ في مناطق أخرى. ولولا انقلاب العسكر في مصر على الرئيس محمد مرسي، لكان قد تحقق لـ«إخوان» تركيا نجاح استراتيجي عظيم.
الاعتقاد التركي ان لها مصلحة في شرق المتوسط ادى الى خلافات مع اليونان ومع مصر السيسي بعد الانقلاب على مرسي، ومع الاتحاد الأوروبي بشأن تكلفة ضبط الهجرة السورية إلى أوروبا (إضافة إلى خلافات متصاعدة مع فرنسا، على خلفية اقتحام تركيا المجال الاقتصادي الحيوي للأولى في إفريقيا). ومع العلم بدخول الإمارات على خط أزمة الشرق المتوسط، عبر المناورات المشتركة مع اليونان، يمكن تصوّر حجم التحدّيات المتربصة بتركيا. وعلى هامش المناورة، المتاح لـ«تسطيح» بعض خلافاتها مع مصر والسعودية
تحديدا، يمكن لتركيا التفرّغ لمعالجة تناقضاتها الرئيسة: حقوقها في غاز شرق المتوسط، تحييد «قوات سوريا الديمقراطية»، اتِّقاء التّدخُّل الإسرائيلي لصالح الإمارات.
بين إيران وتركيا، مصالح اقتصادية هائلة بمليارات الدولارات. وعلى الرغم من تأثر التجارة بينهما، بفعل العقوبات الأميركية المسلطة على إيران، إلا أن البراغماتية التركية لا تعدم سبيلا، في رعاية مصالحها مع جميع الأطراف. لكن، هل تستمر العلاقات التكتيكية بين الفاعليْن الإقليميْن، بما يجنيانه من مصالح مادية، من دون التأسيس لعلاقة استراتيجية، تُغيِّر موازين القوى في المنطقة بشكل جذري؟
فالذي قرأ التغيير في العالم للاقطاب الجديدة هما الهند وايران لذلك استراتيجيتهما بالسياسة الخارجيه والتعاطي مع الملفات ثابتة، والذي لم يقرأ جيداً هو في تخبط مستمر وهما تركيا والكيان الصهيوني.
لذلك النظام الإيراني في حاجة إلى قدر من براغماتية النظام التركي، في مقابل حاجة الأخير إلى قدر آخر من عقائدية النظام الإيراني.