الفريق الرئاسي يعود إلى نغمة التخلص من الحريري وموسكو كما الفاتيكان تعرف المعرقلين
وليد شقير
ما لم يقله جبران باسيل أكثر أهمية مما قاله بأشواط. وفي أغلب الأحيان هذا ما يحاكمه عليه الساسة اللبنانيون والقادة الروحيون والديبلوماسيون الأجانب والموفدون الدوليون والعرب، حين يستمعون إليه وتفلت منه مقاصده عما يضمره ويغلفه بالمواقف المبدئية، وادعاء الحرص على حقوق المسيحيين ومحاربة الفساد، والرغبة في قيام الحكومة ونفي المطالبة بالثلث المعطل وقول الشيء وعكسه بتوريات والتفاف على الكلام وادعاء العفة ومصلحة البلد.
لم يقل باسيل إنه حين سعى “حزب الله” لتسهيل مهمة رئيس البرلمان نبيه بري بسبب علاقته التحالفية مع الرئيس ميشال عون وصهره، لإقناعهما بإزالة العقبات من أمام صيغة الـ24 وزيراً على أساس الثلاث ثمانات، طالب بتسمية الوزيرين المسيحيين، إضافة إلى الوزراء الثمانية الذين يفترض أن يكونا من حصة رئيس الجمهورية، ولم يكتفِ بالسؤال عمن يسميهما كما قال. يتنصل من مطلب الفريق الرئاسي بالثلث زائداً واحداً، لكنه في العملية الحسابية يريد الحصول على الثلث زائد إثنين وليس واحداً فقط.
مع أن جميع المنغمسين في اتصالات التأليف، بمن فيهم بعض القريبين من “التيار الوطني الحر” يدحضون الحجة القائلة ان من حق عون أن يرفض تسمية الحريري أي وزير مسيحي في وقت هذا حق الرئاسة، لأن الثنائي الشيعي سمى وزراءه الخمسة، ويؤكدون أن تسمية هؤلاء الوزراء لم تأتِ لا “حزب الله” ولا الرئيس بري، بل اكتفيا بالموافقة عليهم على القاعدة التي أرساها الأخير: “ألا يكونوا معنا وألا يكونوا ضدنا”. مع كل ذلك، يريد باسيل أن ينسب إلى الثنائي ما لم يفعله، وللحريري ما لم يقم به، فيخترع القصة ويريد من الآخرين أن يصدقوها، ليسوغ لنفسه الاعتراض على الظلامة التي تلحق بدور الرئيس المسيحي، لأن الرئيس المكلف سعد الحريري لا يساويه بالثنائي الشيعي وبرئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بحجة أن الأخير أيضاً سمى الوزير الدرزي، في وقت قالها جنبلاط أكثر من مرة إن الحريري سمى هذا الوزير ولم يأخذ بمن اقترحه عليه. بل جنبلاط نقل عن الحريري أنه رفض الإسم الذي فضل هو توزيره، تحديداً لأنه جاء طرحه من رئيس “الاشتراكي”، كي لا يقال إنه وافق على ما طلبه منه، في وقت لا يريد للآخرين أن يتذرعوا بأنه ترك لجنبلاط اختيار الإسم فيطالبون بالشيء نفسه. أما حجة أن يسمي الحريري الوزراء السنة وأنه هو من اختارهم، مثل الشيعة وبعض المسيحيين والدرزي، على قاعدة بري “ليسوا ضدنا وليسوا معنا” ومعظمهم لا يعرفهم، بل سأل شخصيات سنية أن يقترحوا من يتمتعون بهذه الصفة، حتى إن بعضهم حين أراد زعيم “المستقبل” التعرف إليه كونه سيتحمل مسؤولية وضع إسمه في اللائحة التي سلمها للرئيس عون في 9 كانون الأول الماضي، أضاع الطريق قبل أن يتمكن من الوصول إلى بيت الوسط، لأنه لا يعرف أين يقع جغرافياً.
لا حرج لدى الحريري من اتهامه بتسمية الوزراء السنة وبعض المسيحيين سواء كان عدد من يسميهم يفوق النصف زائداً واحداً، لأن صبغتهم هي الاختصاص وليسوا منتمين إلى فريقه أو إلى حلفائه ولا إلى خصومه أيضاً، والقوى السياسية متناغمة مع حياديتهم طالما هي التزمت المبادرة الفرنسية. فكل الفرقاء يسلمون بهذه الطريقة أو تلك بأن كل الحكومة من المستقلين الاختصاصيين، الذين من الطبيعي إطلاق يد الحريري في اختيارهم ما داموا ليسوا منخرطين في الصراع على السلطة وفي المماحكات التي عطلت حكومتين سابقتين ترأسهما في العهد الرئاسي الحالي وحالت دون الإصلاحات التي كان يمكن أن تنقذ البلد مما هو فيه الآن.
مما لم يقله باسيل أنه لم يقف عند حد المطالبة بالثلث المعطل في معرض نفيه، وفي سياق استصراخ “غيرة الدين” لأن الحريري سيسمي وزيرين مسيحيين، أنه طالب فوق ذلك بحصول فريقه على حقيبة العدل إضافة إلى حقيبة الداخلية. وفي مسرحية موقعة اقتحام شركة مكتف للصيرفة الأسبوع الفائت ما ينبئ بـ”العدل” الذي ينوي ممارسته عبر تلك الوزارة.
كل هذه المطالبات بتبريرات وصفها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان بأنها “من الزمن الغابر” لأنها تنتمي إلى عصر غير هذا العصر، أو لأنها افتُعلت في اتفاق الدوحة، قبل 13 سنة، تتم في ظل “اشتراط” باسيل ومصادرته شعار حكومة الاختصاصيين المستقلين، الذين يعود فيطالب بتسميتهم.
يمكن ذكر الكثير مما تجنب باسيل قوله. ما ذكره في إحدى مطالعاته التي كان يدلي بها كل يوم أحد، عن أن الثلث المعطل حق دستوري لفريق رئيس الجمهورية، ثم عاد فنفاه، كرره أمام بعض من التقاهم من اللبنانيين والأجانب، وبرره في لقائه قبل الأخير مع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الذي رفض محاولته استنهاض همة بكركي المسيحية، بحجة أن على المسيحيين أن يحصلوا على الحصة الوازنة في الحكومة المقبلة كي يكونوا مؤثرين في قراراتها إذا حصل فراغ رئاسي ولم تحصل الانتخابات الرئاسية. وبالطبع رفض الراعي هذا المنطق. ثم عاد فجدد الإشارة إلى أنه حق دستوري في مؤتمره الأخير يوم السبت.
بصرف النظر عما لم يقله باسيل، ومنه أنه وسيد العهد يريدان منه الاعتذار. هذه كاد الصهر يقولها بالفم الملآن، حين أشار إلى أنها الخيار الوحيد، طالما يرى استحالة استقالة المجلس النيابي لتعذر إجراء انتخابات نيابية، وطالما أن رئيس الجمهورية لا يستقيل، فإن محيط الرئاسة عاد إلى نغمة السعي إلى إيجاد بديل عن الحريري ضمناً، على الرغم من أن باسيل أبلغ البطريرك الراعي أنه ليس ضد رئاسة زعيم “المستقبل” للحكومة.
باسيل الذي يستغيب حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” عن الحكومة للتفرد بحق تسمية الوزراء، في وقت يصرخ الحزبان مطالبين بحكومة اختصاصيين مستقلين عن التركيبة الحاكمة قبل طرحها من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقبل أن يقتنع الحريري نفسه بأنها الطريق إلى معالجة الأزمة، سيكون عليه أن يبذل جهداً فوق العادة لإقناع الوسطاء الدوليين، ومنهم القيادة الروسية حين يزورها الأسبوع المقبل.
فموسكو مثل غيرها من العواصم عبر بعثاتها الديبلوماسية، ومثل الفاتيكان، تعرف تفاصيل من يعطل ولادة الحكومة، وتدرك أن التذرع بحقوق المسيحيين لا تستقيم، وأن الاستئثار بفضيلة السعي للإصلاح ومحاربة الفساد هي تغطية للهروب من التدقيق بأوضاع وزارة الطاقة، وأن وراءها جشعاً للسلطة تغذيه حسابات تتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة.