لم يأبه المقدسيون لقمع الاحتلال وبطشه (أحمد غرابلي/فرانس برس)
منذ مطلع شهر رمضان الحالي، تتصاعد أحداث هبّة “باب العامود” في القدس المحتلة، لتنفجر خلال الأيام الأخيرة الماضية مواجهات بين أهالي المدينة والمئات من المستوطنين وجنود الاحتلال، وتُبرز قدرة جيل جديد من الشباب المقدسي على مواجهة الاحتلال ومخططاته، من دون أن تقيّده الانتماءات الحزبية والفصائلية، ولينوب المقدسيون عن كلّ الفلسطينيين في هذه المواجهة المفتوحة مع الإسرائيليين، والتي قد تتطور إلى انتفاضة شعبية أوسع، أو قد ينجح الاحتلال في إخمادها.
وبدأت الأحداث بتضييق قوات الاحتلال على المقدسيين، ومنعهم من الجلوس بحريّة في ساحة “باب العامود” في القدس، ثم ليزداد حجم الاعتداءات والقمع بحق المقدسيين من قبل جنود الاحتلال والمستوطنين. لكن جديد الهبّة الحالية، وفق ما يرى محللون سياسيون وقيادات فلسطينية، أنها أبرزت على نحو كبير قدرة جيل مقدسي فتيّ، مقدام ويتمتع بالجرأة، ولا تقيّده الانتماءات الفصائلية، على تحدي الاحتلال، على الرغم من أن جزءاً مهماً ممن خاضوا مواجهات ليلية كاملة، وحتى الفجر، هم محسوبون على فصائل من مختلف ألوان الطيف الفلسطيني. بيد أن ما جمعهم، هي المساحة الأخيرة من هويتهم التي يسعى الاحتلال إلى استلابها وإعادة إحلالها بهوية غريبة يلفظها تاريخ المدينة.
وعلى الرغم من التحذيرات من إقحام هبّة “باب العامود” في قضية الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية، المرتقبة في مايو/أيار ويوليو/تموز المقبلين، والتي لم توافق إسرائيل بعد على إجرائها في القدس، إلا أن مسؤولين ومحللين مقدسيين يرون ضرورة استثمار الهبّة للضغط على الاحتلال من أجل هذا الهدف.
هبّة جديدة
يعرب محللون سياسيون عن اعتقادهم بأن الهبة الشعبية التي شهدتها مدينة القدس المحتلة خلال الأيام الماضية، تستمد روحها وعفويتها من هبّة البوابات الإلكترونية (إغلاق الاحتلال بوابات المسجد الأقصى ومنع الصلاة فيه) قبل نحو أربع سنوات (يوليو/تموز 2017)، وهي الهبّة التي أدّت إلى تعزيز الشبان المقدسيين هويتهم الوطنية التي حاول الاحتلال تشويهها وسلبها وحبسها بحبال الأسرلة والتهويد وطمس قوميتهم. ومن الممكن أن تكون إجراءات الاحتلال الذي استغل تفشي وباء كورونا لتحديد دخول الفلسطينيين للمسجد الأقصى، عاملاً مهماً في تهيئة جو المواجهة، وكذلك الخطوات السياسية التي تستخدمها سلطات الاحتلال لمنع العملية الانتخابية في القدس الشرقية.
ولم يعد الشباب المقدسي يأبه لوجود جنود وأفراد شرطة الاحتلال المكثف، إذ إن الهبّة الحالية في المدينة المحتلة، ليست فقط جديدة وغير مسبوقة منذ سنوات، بل تؤكد أن “لا سلام دائماً في القدس من دون التوصل إلى حلّ سياسي شامل يعترف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية”، وفق ما يؤكده الخبير في السلوك النفسي والاجتماعي، وعضو المجلس التشريعي سابقاً عن دائرة القدس، برنارد سابيلا، في حديث لـ”العربي الجديد”.
من جهته، يرى القيادي في حركة “فتح”، حاتم عبد القادر، في حديث مع “العربي الجديد”، أن أحداث القدس الجديدة، شكلت نوعاً من الدفاع عن كرامة المدينة، وأثبتت أن القدس “ليست مساحة خضراء للمستوطنين”، كما أنها تعتبر رسالة واضحة للاحتلال مفادها بأن المقدسيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ممارساته القمعية بحقّهم.
ومن المفترض أن تكون لهذه الهبّة تداعيات كثيرة، ليس فقط على الاحتلال، بل أيضاً على السلطة الفلسطينية والفصائل مجتمعة، لكونها حصيلة عمل شعبي، وليس فصائلياً، تتطلب استمراريته وديمومته وجود إرادة سياسية للسلطة الفلسطينية والفصائل من أجل الضغط على دولة الاحتلال. ويشدد عبد القادر في هذا الصدد، على أن الهبّة تحمل دلالات سياسية، مؤكداً على كونها تتطلب إرادة سياسية فلسطينية قادرة على إرغام الاحتلال للسماح بإجراء الانتخابات في القدس، بل انتزاع ذلك منه انتزاعاً، كما يجب على السلطة الفلسطينية أن تتحمل مسؤوليتها في دعم القدس وأهلها، من دون أن يحصل ذلك في الذاكرة ومواسم الانتخابات فقط، “فالقدس ليست ورقة انتخابية، بل كينونة المشروع الوطني”، وفق قوله. وبالنسبة لعبد القادر، فإن تداعيات هبّة “باب العامود” لن تتوقف، بعدما حملت رسالة سياسية للاحتلال، بأنه إذا استمر باعتداءاته واستفزازاته، فإن المقدسيين مستعدون لهبّة أخرى، تماماً كما حدث في معركة البوابات الإلكترونية قبل نحو أربع سنوات.
أما الكاتب والمحلل السياسي راسم عبيدات، فيؤكد أن الاتساع في بنية الهبّة وتطوراتها يجب أن يكون بعيداً عن ركوب الموجة من قبل أي فصيل، مشدداً في حديث لـ”العربي الجديد”، على ضرورة أن تفرض هذه الهبّة أجندتها على السلطة الفلسطينية، وعلى فصائل العمل الوطني والإسلامي التي تستعد لخوض انتخابات عامة، ما لم تلغَ أو يتم إرجاؤها. ويرى عبيدات أن حكومات الاحتلال المتعاقبة وأجهزتها الأمنية تعاملت مع المقدسيين على قاعدة أن المقدسي الذي لا يخضع بالقوة، يخضع بالمزيد منها، ولم تكتف بحرمانهم من حقوقهم السياسية الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، بل عمدت إلى ممارسة سياسة طرد وتهجير وتطهير عرقي بحقّهم بالإضافة إلى ممارسات عنصرية فاضحة أخرى.
تلك الممارسات باتت “تتغول” و”تتوحش” تجاه المقدسيين في كلّ التفاصيل الصغيرة والكبيرة، مع منح الاحتلال الضوء الأخضر لعصاباته من المستوطنين والجماعات التلمودية والتوراتية، لكي تمارس القمع والتنكيل والإرهاب والتخويف والاعتداء على ممتلكات المقدسيين ومركباتهم والمسّ بمشاعرهم الدينية، سواء الإسلامية أو المسيحية، ما أحدث ردة فعل وحالة غضب مكتومة، ما لبثت أن انفجرت في وجه الاحتلال ومستوطنيه، وفق عبيدات.
جرأة التصدي للاحتلال والمستوطنين
على أرض الواقع، وفي ميدان المواجهة والاشتباك وجهاً لوجه مع الاحتلال ومستوطنيه، فإن المساحة التي يسمح للشبان المقدسيين بالوقوف فيها، ظلّت تصغر، إلى أن انفجر الغضب بمشهد جريء لهم وهم يصدون مجموعات من المستوطنين عما بقي لهم من هذه المساحة على يد الاحتلال.
وترى الناشطة النسوية المقدسية، نجوى عودة، أن الأحداث الأخيرة “تؤكد أن القدس هي الرقم الأصعب والعقبة الكبرى أمام كل محاولات الاحتلال فرض سيطرته وسيادته عليها، على الرغم من أعتى أساليب البطش والترسانة العسكرية التي يستخدمها”. وبرأي عودة، في حديثها لـ”العربي الجديد”، فإن “المقدسي الأعزل، من الطفل للشيخ، قد يصبر ويتحمّل أي شيء، إلا الانتقاص من حقّ سيادته ووجوده في مدينته، وهو لديه قوة سحرية وروح وثابة، تجتمع وتنصهر وتنتج قوة خارقة للمواجهة، إذا ما تعرضت قدسنا وأقصانا للخطر”.
وعكست المشاهد التي أظهرت مئات الشبّان المقدسيين وهم يطاردون فلول المستوطنين أمام أعين جنود الاحتلال، ومن دون اكتراث لقمعهم بالإصابة والاعتقال، حقيقة الواقع الصعب والأقرب للجحيم الذي يعيشه المقدسيون عموماً، والشباب منهم على وجه الخصوص.
اليوم بات المشهد العام أمام هبّة شعبية جديدة، مهمة جداً من حيث التوقيت، ومع احتمال تطورها، ما يشي بأن صيفاً سخناً قد يكون بانتظار القدس، في ظلّ تهديد الاحتلال وشرطته فيها. ويتوقع أحد ناشطي الحراك الشبابي المقدسي، والذي فضّل عدم ذكر اسمه، في حديث مع “العربي الجديد”، صيفاً ساخناً للقدس على ضوء ممارسات الاحتلال اليومية من قمع وقهر، وكذلك ما تشهده المدينة من تغول المستوطنين بالاعتداءات اليومية على المقدسيين والاستيلاء على منازلهم، فضلاً عن تدنيسهم اليومي للمسجد الأقصى.
ويبقى تصاعد الأحداث واحتمالية تطورها إلى انتفاضة شعبية واسعة أمراً وارداً. ويوضح الناشط المقدسي أن شباب القدس يواجهون أعتى ممارسات القمع والاستهداف ومحاولة سلبهم انتماءهم الوطني، مع ازدياد معدلات الفقر والبطالة بين صفوفهم بسبب سياسة التهويد الإسرائيلية. وكما هو الحال في هبّات شعبية سابقة، جاء حضور الفصائل السياسية متأخراً عن هذا التطور اللافت، كما لم تلق البيانات الصادرة عن هذه الفصائل اهتماماً كبيراً من قبل الشبان المنتفضين الذين يؤكدون أن تحركهم هو ثمرة مبادرة عفوية انتصاراً لكرامتهم وكرامة مدينتهم، وردّاً على تحدي المستوطنين لهم.