هاني عانوتي
قد يقول البعض “عّم بتزودوها”، الكل يدق ناقوس الخطر من الأمور ليست خطيرة بل كارثية وخرجت عن السيطرة وبات السقوط المحتم يُقاس بالأسابيع وليس بالأشهر. هذا في الإقتصاد، لكن ماذا عن القيم المجتمعية؟ لا يختلف إثنان على أن الفساد في لبنان يُعد من الأعلى عالمياً. معظم التقارير الدولية قد اشارت الى أن الفساد الاداري والمالي الكبير قد ضرب عمق الاقتصاد وان هذا البلد الصغير والضعيف أصبح في عمق الهاوية. أمامنا مشهد إقتصادي وإجتماعي قاتم السواد. برغمه، أنا من القائلين أن لا خوف على الإقتصاد. فمن خلال الإرادة الوطنية والاستقرار السياسي والأمني وبعض الخطط العلمية الشفافة الصادقة والقوية بالإضافة الى الدعم الدولي والعربي، نستطيع إنعاش الاقتصاد اللبناني مُجدداً. كل عناصر إعادة بناء اقتصاد لبناني قوي برؤية وخطة واضحة.. موجودة. ولعل تجربة لبنان ما بعد الحرب الاهلية وإعادة اعمار البلد والاقتصاد (برغم التحفظ على الخطط التي وضعت في مطلع تسعينيات القرن الماضي) ما زالت حية في ذاكرتنا، لا بل نعيش اليوم على ما بقي من آثارها. الأخطر من الإقتصاد هو الفساد. هنا مكمن الخوف من سقوط محتم ومن عدم توفر القدرة على إعادة البناء والنهوض. لا أقصد الفساد الإداري والمالي (في القطاع العام بالدرجة الأولى) بل أتحدث عن فساد أخطر وأشد فتكاً وتدميراً، ألا وهو الفساد الاجتماعي الاخلاقي وانعدام القيم. قد يتهمني البعض بالمزايدة في توصيف الفساد الاخلاقي ـ الاجتماعي ولا سيما عندما أضعه في مصاف “الكارثي” و”المدمر”. لكن من يراقب ما نشهده يومياً من حوادث قتل واقتتال في الشوارع لأسباب تافهة جداً او حتى من دون سبب، يستنتج جلياً ان هذا النوع من فساد المجتمع مخيف ولا يمكن معالجته ولا حتى مداواته من خلال خطط عملية وإدارية ودعم دولي. غياب دولة القانون؛ انتشار الفقر المدقع؛ إهمال التعليم وازدياد نسبة الأمية والتسرب المدرسي؛ انعدام فرص العمل؛ صعوبة الهجرة؛ شرعنة ثقافة الفساد السياسي ـ المالي؛ انتشار المدارس الدينية غير الشرعية؛ إنتهاك البيئة؛ التهريب؛ التحايل على القانون؛ الفساد الغذائي؛ هذه كلها وغيرها جعلت منظومة القيم والأفكار تتراجع لمصلحة قيم العنف وشريعة الغاب. فمع كل إشراقة صباح نستيقظ على اخبار قتل وتعذيب واذلال وانحراف واعتداء جنسي على أطفال واستغلال جنسي وتعنيف نساء وبيع حليب وادوية أطفال مغشوشة وتسميم حيوانات ومياه غير صالحة للشرب أو حتى للإستخدام وهناك الكثير الكثير من الأمثلة التي يصعب رصدها وتعدادها. لكأننا أصبحنا شعباً بلا ضمير وحتى بلا روح. لكأن ثقافة العنف بمختلف أنواعه أصبحت المعيار. لكأن شريعة الغاب هي الإطار الطبيعي للعيش في هذا البلد على قاعدة البقاء للاقوياء فقط. مع الوقت، صارت الأخلاق لعنة وطيبة القلب نقمة واحترام الآخر ضعفاً وإجلال القانون والنظام العام وعدم السرقة “هبلاً” وأصبح “الازعر المدعوم” هو الحاكم بأمره.. وكم هم كُثر حُكامنا نعم، هكذا تبدلت قيم مجتمعنا بفعل الفساد الاجتماعي ـ الاخلاقي، او ربما نتيجة طبيعية لتراكمات سنوات الحرب الاهلية الـ15 وما رافقها وتلاها من تفكك ممنهج لأسس العائلة والمجتمع والدولة. وما زاد السوء سوءاً أننا نفذنا ما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف) بطريقة مقلوبة. كان مطلوباً إدخال الميليشيات إلى مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية من أجل إعادة تأهيلها وتشريبها ثقافة الدولة. لكن حصل العكس. صار قادة الميليشيات في موقع القرار وهم المؤتمنون على تطبيق الدستور والقانون.. كل عائلة لبنانية حيّدت أولادها أثناء سنوات الحرب وقررت الصمود وعدم ترك الوطن بإنتظار لحظة السلم، وجدت نفسها فجأة خارج الدولة المشتهاة ومن كان يحكمنا في الحرب صار يتحكم بالدولة وبقرارها وصارت “قيمه” هي السائدة، وهذا الواقع ما زال مستمراً حتى يومنا هذا. عملياً، صار لبنان ما بعد الحرب تحت رأفت المقاتلين بزيهم المدني الجديد وقادتهم الذين صاروا أصحاب ألقاب جديدة، لكن هذه المرة تحت قناع الدولة ولباسها الرسمي. ومع الوقت، صارت الأخلاق لعنة وطيبة القلب نقمة واحترام الآخر ضعفاً وإجلال القانون والنظام العام وعدم السرقة “هبلاً” وأصبح “الازعر المدعوم” هو الحاكم بأمره.. وكم هم كُثر حُكامنا. نعم هكذا انتهت “الاخلاقيات” في لبنان وأصبحنا حتماً في نقطة اللاعودة. فالقيم والاخلاقيات غالباً ما تتكون من خلال تراكمات ثقافية فلسفية ايديولوجية. إنها كناية عن موروثات تاريخية جمة بحاجة الى اجيال واجيال لتُبنى وتتكون. انها أيضا مزيج من مناهج تعليمية وقيم اجتماعية وايديولوجيات حزبية مبنية على عقائد فلسفية تقدمية. هذه المكونات ليست موجودة في واقعنا اللبناني الحالي لان الحاكم المسؤول عن بناء المجتمعات – أي السلطة – لم يعرف سوى النقيض، أي ثقافة القتل والدمار والسرقة والفساد، واعوام الحرب الاهلية هي خير شاهد على ذلك. فالتدهور الحاصل من راس الهرم (أي السلطة) الى أسفله دفعنا جميعاً ان نكون بعيدين كل البعد عن فهم معنى الحياة والانسان والفرح ومعنى التقدم والحداثة وروعة الحياة. لقد اغرقنا أنفسنا بعقد اجتماعية اخلاقية سخيفة بدل تطوير الذات من خلال بناء مجتمع سليم يحترم الانسان ويكرّس قيمه ويمجد الدولة والقانون المدني. إقرأ على موقع 180 خطّة “لازار” المالية: التوصيف الفج والحل المنقوص للاسف لم يتعامل معظم الطبقة السياسية الآتي من زمن ثقافة الحرب الأهلية و”عاداتها” مع المجتمع من باب القيم الانسانية والضوابط الاجتماعية، بل على اساس ميليشياوي ممنهج. تم تدمير ثقافة الانسان وروح العدالة واستبيحت الاعراف وشُرّعت المحرمات واستبدلت شريعة القانون بشريعة الغاب. بذلك تم كريس الفساد الاجتماعي على انه جزء لا يتجزأ من المجتمع. لماذا يتحمل الحكام الجزء الأكبر من التدهور الحاصل؟ كل حاكم أو قائد هو القدوة والمثال. هو المسؤول عن بناء المنظومات المجتمعية وقيمها. صورة القائد الحزبي او السياسي هي الأهم لان الانسان، بطبيعته وبسيرورته، بحاجة الى قائد يتماهى مع صورته ومع قيمه. في حالتنا اللبنانية البائسة، ومع غياب هذا الصنف من القادة المسؤولين من ذوي الأيديولوجيات والرؤية والفكر والثقافة.. سنصل حتماً الى القعر حيث نحن موجودون الآن، ولن تتغير المعادلة الى ان يتغير الحاكم