جبريل محمد
لا تزال مذبحة الأرمن تلاحق تركيا، فقبل أكثر من قرن ارتكبت الدول العثمانية مجزرة بحق الأرمن في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
الرئيس الأمريكي جو بايدن اعترف، اليوم السبت، بأن مذابح الأرمن “إبادة جماعية”، ليكون أول رئيس للولايات المتحدة يصف مقتل 1,5 مليون أرمني على يد السلطنة العثمانية عام 1915 بأنه “إبادة”.
وبذلك ستضاف الولايات المتحدة إلى أكثر من 30 دولة تعترف بأن مذابح التي تعرض لها الأرمن على أيدي العثمانيين، “إبادة”.
وبحسب موقع “أرمينين جينوسيد” المعني بهذه الذكرى، فإن أمريكا تنضم لقائمة الدول التي اعترفت بالإبادة وتضم: لبنان، وسوريا، واليونان، وفرنسا، وروسيا، وإيطاليا، وألمانيا، والأرجنتين، والبرازيل، وغيرها.
كما فتحت الكنيسة الكاثوليكية “الفاتيكان” الأرشيف المتعلق بإبادة الأرمن في تركيا، فيما اعترف البرلمان الألماني بالإبادة الأرمينية، وهو ما اعتبره خبراء أنه أكبر إثبات ودليل، خاصة أن برلين كانت حليفا رئيسيا لأنقرة أثناء الحرب العالمية الأولى، علاوة على أن ألمانيا تمتلك جميع أسرار الدولة العثمانية.
وفي 2019 أصدر الكونجرس الأمريكي بأغلبية ساحقة قرارات غير ملزمة في مجلسي النواب والشيوخ وصفت إجراءات عام 1915 بأنها “إبادة جماعية”، لكن إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، رفضت الاعتراف بالأمر.
شوكة في خاصر تركيا
ويعني الإعلان الذي يحمل وزنا رمزيا هائلا، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” المساواة بين ما ارتكبه العثمانيون مع ما وقعت من إبادة جماعية في رواندا عام 1994، وما حدث على أيدي النازيين في الحرب العالمية الثانية .
وترى الصحيفة أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في تركيا وحاجتها إلى أمريكا، تجعل الخيارات أمام أردوغان محدودة.
كما أن الاعتراف الأمريكي بـ”إبادة” الأرمن يشكل عقبة في طريق انضمامها للاتحاد الأوروبي، حيث يشكل ذلك ورقة ضغط على أنقرة، خاصة مع تحذير الاتحاد من أن أي رد الفعل متشدد حيال الاعتراف سيعقّد محادثات الانضمام إلى الاتحاد.
سر المعارضة التركية؟
تعرف اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن الإبادة الجماعية بأنها جريمة “تدمير بشكل كلي أو جزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”.
ويقدر المؤرخون أن نحو 1.5 مليون مسيحي أرمني قتلوا خلال حملات القتل والترحيل التي نفذتها الإمبراطورية العثمانية بداية من عام 1915. ويستخدم الكثيرون كلمة “إبادة جماعية” لوصف ما حدث.
لكن تركيا – الإمبراطورية العثمانية وقتها – ترفض تلك الروايات، واعترف القادة الأتراك المتعاقبون أنه رغم وقوع “أعمال وحشية بالفعل”، يؤكدون أنها لم ترتق لحالات اضطهاد بالدرجة التي تزعمها أرمينيا وأنصارها.
وبدلًا من ذلك، تقول تركيا إن نحو 300 ألف أرميني قتلوا خلال الحرب العالمية الأولى نتيجة الحرب الأهلية والاضطرابات الداخلية التي استنزفت الإمبراطورية العثمانية أثناء انقسامها.
وبالإضافة إلى المسيحيين الأرمن، تقول تركيا إن الكثير من الأتراك المسلمين ماتوا خلال هذه الفترة.
غير أنه بالنسبة لأنقرة، يهدد مصطلح الإبادة الجماعية، القصة التي تحكيها عن تأسيس دولتها القومية الحديثة.
وتمت محاكمة الكُتاب الذين استخدموا هذه الكلمة بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركي، الذي يجرم “إهانة الهوية التركية”.
تاريخ الإبادة
وأباد العثمانيون أكثر من مليون ونصف أرميني، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن العشرين، من حيث دمويتها التي تضاهي مذابح النازيين.
وعشية الحرب العالمية الأولى “1914- 1918” بلغت الدولة العثمانية مرحلة الانهيار الوشيك، في وقت سطع فيه نجم شعوب خاضعة لها، بينهم الأرمن، إذ يقول محمد رفعت الإمام في كتابه “القضية الأرمينية والدولة العثمانية” إنهم بلغوا بالقرن 19 درجات متقدمة من الازدهار على جميع الأصعدة، حتى إنه قال متندرا إن العثمانيين كانون يتحدثون باللغة التركية ويفكرون بالأرمينية.
بزوغ شمس الأرمن فجر الحقد بنفوس العثمانيين ممن كانوا مسكونين بعقد التفوق العرقي، ولم يتمكنوا من استيعاب حقيقة أن آخر أقلية مسيحية تحت سلطتهم تفوقت عليهم، فقرر وزير الدفاع حينها أنور باشا التعجيل بتنفيذ ما يعرف بـ”المخطط الطوراني”، للإفلات من حرج هزائمه المتكررة.
واستغل أنور باشا تحالف الأرمن مع جيش القيصر واتهمهم بالخيانة العظمى، في مسار يشبه إلى حد كبير مخطط السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، الذي اتهمهم بدوره بإثارة الفتنة الطائفية، قبل أن يبدأ بقطف رؤوسهم على مراحل.
وبالفعل صدرت أوامر إبادة الأرمن من أجل الاستيلاء على أراضيهم، لتبدأ واحدة من أبشع جرائم التاريخ.
الصحفي البريطاني البارز روبرت فيسك قال في مقال نشرته صحيفة “الإندبندنت” المحلية في يوليو/تموز 2019، استنادا لدراسة حديثة للمؤرخ التركي “تانر أكتشام” الذي يعيش بمنفاه الاختياري بالولايات المتحدة هربا من مطاردة نظام رجب طيب أردوغان، إن قرار استهداف الأرمن تم اتخاذه بعد 31 يوما من دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1914.
وأشار “فيسك” إلى أن المذابح الأولية استهدفت الرجال الأرمن فقط في مقاطعتي فان وبيتليس، قبل أن تمتد لتطول النساء والأطفال.
جريمة كبرى
في فبراير/شباط 1915 جرّد أنور باشا الجنود الأرمن من أسلحتهم ورتبهم العسكرية ثم كلفهم بمهام مد الجسور وبناء الطرقات، وحين انتهوا أمر بقتلهم جميعا.
ومن الجيش، مر إلى نخبة الأرمن، ليأمر باعتقالهم قبل أن يوجه إليهم تهما مفبركة تمس بأمن الدولة، وأصدر بحقهم أحكاما بالإعدام، فيما تم تهجير وترحيل عدد كبير منهم إلى صحراء سوريا والعراق، حيث قضوا عطشا.
واستكمالا للمخطط نفسه، كان لا بد من دعمه بفتوى تبيح هدر دماء الأرمن، وبذلك صدرت فتوى جاء فيها أن “الأرمن كفرة وخونة، وقتلهم جهاد وفرض على كل مسلم”، لتتشكل إثر ذلك بأمر مباشر من السلطان العثماني مليشيات عسكرية أطلق عليها اسم “الجيش الخمسيني”، لينطلق مسلسل الرعب الحقيقي في حياة الأرمن.
ووفق المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، كان الجنود العثمانيون يقيدون الأرمن ويأخذونهم خارج المدينة حفاة وشبه عراة، وحال تسنح لهم الفرصة يعمدون إلى ذبحهم ثم يختطفون نساءهم وأطفالهم ويجهزون عليهم سحلا أو حرقا أو عبر تركهم لأشهر بلا أكل حتى تنهشهم الأوبئة والأمراض، فيقضون جراء ذلك.
وبحسب المصدر نفسه، تعرضت 3 مدن لإبادة جماعية كاملة هي “بدليس” و”فان” و”ساسون”، فيما جرى ترحيل الأطفال والنساء ممن ظلوا أحياء ببقية المدن الأخرى، غير أنهم لم يسلموا من التعذيب الوحشي الذي كانوا يلاقونه كلما مرت بهم مليشيات “الجيش الخمسيني” حتى إن الرجال وأسرا بأكملها كانت تتمنى الموت من شدة التعذيب ووحشية ما يتعرضون له من ممارسات.
سحلوا الرجال وأحرقوهم أحياء واغتصبوا النساء واتخذوا الجميلات منهن سبايا، أما الأطفال فقد كانوا يلقون بهم في الصحراء حتى ينال منهم العطش فيموتون وتطمرهم الكثبان.