ضبط شُحنة تهريب يعني نجاح جهود لتطويق هذه «العادة التجارية»، إلا أنّ السعودية قرّرت استغلال الكشف عن شُحنة «رمّان» جديدة تُخبأ بها حبوب الكبتاغون لوقف استيراد المنتجات الزراعية من لبنان، ومنع حتى مرورها من أراضيها! السعودية تُحاصر لبنان تجارياً واقتصادياً بعدما فشلت محاولات السيطرة السياسية على قراره
في كانون الأول 2020، أعلنت السعودية إحباط تهريب 8 ملايين و753 ألف حبّة كبتاعون من تركيا إلى داخل المملكة. تحوّل الموضوع إلى «وسمٍ» على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولات ضغط لوقف الاستيراد من تركيا… «دعوات» لم يحوّلها مطلقوها إلى أمر واقع، وبقي الأمر في حدود المقاطعة غير الرسمية لبعض البضائع التركية، التي انطلقت على خلفية التشنجات السياسية بين البلدين ولم تُربط يوماً بشحنة الكبتاغون.
في 21 كانون الثاني 2021، أعلنت مديرية مكافحة المخدرات السعودية إحباط تهريب نحو 20 مليوناً و190 ألف قرص كبتاغون، عبر ميناء جدّة، مُخبّأة في شحنة عنب… ليتكرّر الأمر في الميناء نفسه في 5 نيسان الجاري، مع محاولة تهريب 5 ملايين و200 ألف قرص مخبأة داخل شحنة برتقال.
عمليات الضبط السابقة تقدّم كأمثلة عن جانب من «نشاط» تجارة المُخدرات في المملكة العربية السعودية، وهي ليست عصفوراً يُغرّد خارج السرب في موضوع تهريب الممنوعات. فالتقارير الصحافية والأمنية عديدة عن تفشّي هذا «الوباء» داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية وغيره من البلدان. تُعدّ الرياض واحدة من «بؤر» تجارة المخدرات ــــ الكبتاغون تحديداً ــــ في العالم، وباتت هذه المُشكلة تُمثّل تحدّياً أمام مُجتمعها. لكنّها لم تلجأ في أي من الحالات إلى تجميد العلاقات التجارية كما فعلت مع لبنان أمس، حين أعلنت وقف استيراد الخضر والفاكهة، بدءاً من يوم غد الأحد، «إلى حين تقديم السلطات اللبنانية المعنية ضمانات كافية وموثوقة لاتخاذها الإجراءات اللازمة لإيقاف عمليات تهريب المخدرات المُمنهجة ضدّها». وقد جاء في البيان الصادر عن سفارة السعودية لدى لبنان أنه «تزايد استهداف المملكة من قبل مُهربي المخدرات التي مصدرها لبنان أو التي تمرّ عبر الأراضي اللبنانية وتستخدم المنتجات اللبنانية لتهريب المخدرات إلى أراضي المملكة… ونظراً إلى عدم اتخاذ إجراءات عملية لوقف تلك الممارسات تجاه المملكة، على الرغم من المحاولات العديدة لحثّ السلطات اللبنانية المعنية على ذلك، فقد تقرّر منع دخول إرسالية الخضروات والفواكه إلى الممكلة أو العبور من خلال أراضيها». تتجاهل الجهات السعودية أنّ لبنان، وتحديداً عناصر الجمارك فيه، ضبطوا بتاريخ 3 شباط الماضي شُحنة من 5 ملايين حبّة كبتاغون كان ستُصدّر إليها. وقبل ذلك، أنقذ لبنان «مواطني المملكة والمقيمين على أراضيها من كلّ ما يؤثّر على سلامتهم»، حين أُلقي في تشرين الأول عام 2015، على الأمير السعودي «صاحب السمو الملكي» عبد المحسن بن وليد آل سعود، مُتلبّساً بتهريب نحو 2 طن من حبوب الكبتاغون في مطار بيروت. عبد المحسن ــــ الذي بات معروفاً باسم «أمير الكبتاغون» ــــ كشف عن تورّط أفراد من العائلة الحاكمة، ليس في تعاطي المخدرات فحسب، بل أيضاً في الإتجار بها وتهريبها من لبنان في طائرة تحظى بحصانة ملَكية! التحقيقات يومها أظهرت أيضاً أنّ أميراً ثانياً هو «مُشتبهٌ فيه»، وبعدما عاش عبد المحسن «في عزّ» مُكرّماً داخل زنزانته، نجحت التدخلات من السلطات السعودية في شراء براءته ولصق التهمة بمرافقه.
السعودية لا تُريد مكافحة تجارة الكبتاغون، بل اتخذت من شحنة الرمّان ذريعة لتُطبق حصاراً سياسياً على لبنان. وبعدما فقدت أدوات التغيير السياسية أو العسكرية، وتيقّنت من أن ميزان القوى لا يميل إلى مصلحتها، وجدت أمامها الورقة التجارية لتلوي بها ذراع خصمها. وهكذا قرّرت «مملكة الخير» ضَرب لبنان بواحد من «امتيازاته» القليلة، وهي صادراته الزراعية المحدودة. الأذى لم يقتصر على منع إدخالها إلى السعودية، بل حتى منع أن تكون أراضيها ممرّاً للبضائع اللبنانية، من الأحد وحتى التاريخ الذي يرضى فيه وليّ العهد محمد بن سلمان عن لبنان، أو يُطلب منه ذلك. هي نفسها الدولة التي تضغط على دول عربية أخرى لمنع تأمين أي مساعدة للبنان. غيضٌ من فيض حصار سياسي واقتصادي، يهدف إلى تحطيم الهيكل فوق كلّ ساكنيه، بعدما تعذّر على الرياض بتحالفها مع العدّو الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية وبقية «الحلفاء» جعل البلد محميّة سياسيّة خالصة لهم.
توحي السعودية في بيانها أنّها «ناشدت» الجهات اللبنانية وقف عمليات التهريب، من دون الاستجابة لطلبها. إلا أنّ مصادر دبلوماسية وأمنية تؤكّد أنّ «أحداً لم يتواصل معها أو يطلب التنسيق. والسعودية لم تُسلّم أي ملفّ يتعلّق بتهريب الكبتاغون، وحتى يوم أمس لم تُقدّم المعلومات المطلوبة، كمعرفة المُصدّر مثلاً». وتُضيف المصادر الدبلوماسية إنّه «لم يحصل في العالم أن كان التهريب سبباً لوقف العلاقة التجارية، وربما يكون من أكبر الأمثلة على ذلك العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك». فمعالجة التهريب تتمّ «بطلب زيادة التعاون الأمني والملاحقة وغيره»، وخاصة أنّ للمُهربين «أساليبهم التي ينجحون عبرها في التحايل على كلّ الإجراءات». لذلك، التحليل الأولي يقود إلى «بُعد سياسي للقرار السعودي». يُضاف إلى ذلك، كلام رئيس تجمّع المزارعين والفلّاحين في البقاع إبراهيم الترشيشي، الذي قال إنّ السعودية «تستورد وحدها ما يزيد على 50 ألف طن سنوياً من الإنتاجات اللبنانية الزراعية»، مُضيفاً إنّ «الشاحنة الأخيرة مُحمّلة بالرمّان، ونحن لا نملك رمّاناً لنُصدّره بل نستورده»، قائلاً إنّ مصدر الشاحنة هو سوريا.
وكما درجت العادة، ما كادت السعودية تُصدر بيانها حتى انطلقت «فرقة الندّيبة» لتندب علاقات لبنان العربية، وتحديداً الخليجية، وتشنّ هجوماً على حزب الله و«تستنجد» رضى الرياض. وفي مقدمة هؤلاء يأتي بيان وزارة الخارجية والمغتربين التي، عوض أن ترفع توصية بالمبادلة بالمثل وطلب منع استيراد الألبان والأجبان من السعودية، أصدرت بياناً تدعو فيه السلطات اللبنانية إلى «ضبط كلّ عمليات التهريب عبر تكثيف نشاط الأجهزة الأمنية والجمارك على المعابر في ضوء القوانين التي تجرّم الاتجار وتهريب وتعاطي المخدرات، لقمع هذه الآفة وتفشيها ومنع الإضرار بالمواطنين الأبرياء وبالمزارعين والصناعيين والاقتصاد اللبناني».
على صعيد آخر، مثلت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون أمام رئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد. استمرت الجلسة قرابة أربع ساعات، تقدّمت خلالها عون بشكوى ضدّ المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، «لمخالفته القانون بالتعميم الذي أصدره حول توزيع الأعمال في النيابة العامة الاستئنافية». ولم يرفع بعد التفتيش القضائي توصيته إلى وزيرة العدل لاتخاذ القرار بحقّ عون.