تُسلّط الأضواء اليوم على صورة الرئيس المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري مع البابا فرنسيس خلال زيارته للفاتيكان. واليوم يبلغ عمر تكليف الحريري تأليف الحكومة الرابعة برئاسته، والرابعة في عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، نصف عام. طوال هذه الأشهر الستة، تقاذف المعنيون الاتهامات ومسؤولية تعطيل التأليف. البعض يعتبر أنّ الأزمة الحكومية داخلية متعلّقة بعدم التناغم والتفاهم بين عون والحريري، المناطين دستورياً بإنجاز هذه العملية، وأنّ المشكلة «من عندياتنا»، كما يقول رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي أطلق مبادرات ووساطات عدة لتسهيل الولادة الحكومية. في المقابل، تعتبر جهات سياسية، أنّ المشكلة خارجية ـ داخلية مرتبطة بـ»حزب الله» ومن خلفه إيران، التي تستخدم الورقة الحكومية اللبنانية في مفاوضاتها مع واشنطن والمجتمع الدولي، خصوصاً في ما يتعلّق بالاتفاق النووي.
منذ تكليفه في 22 تشرين الأول 2020، زار الحريري القصر الجمهوري والتقى عون 18 مرّة، وبعد كلّ لقاء من «لقاءات التأليف» كانت تخرج المعلومات المتضاربة من القصر و»بيت الوسط»، وتُشنّ حرب البيانات بين الجانبين، ما يُعرقل التشاور ويجمّد مسار التأليف، ويتطلّب وساطات لجمع الرئيسين مجدداً.
ومنذ اليوم الأوّل على تكليفه، تمسّك الحريري بثلاثة مبادئ في التأليف: حكومة من 18 وزيراً، يكون وزراؤها من الإختصاصيين المستقلين وغير الحزبيين، ولا ثلث معطّلاً فيها لأي طرف. هذا «الثلث المعطّل» كان ولا يزال عنوان الخلاف الأساس المانع للتأليف، بحيث يتمسّك عون به ويرفضه الحريري، بحسب ما تؤكّد أوساط «بيت الوسط»، على رغم نفي عون طلبه الحصول على هذا الثلث.
أيضاً، شهدت هذه الأشهر الأخيرة، حركة مكوكية داخلية وخارجية على خط التأليف، دفعاً الى ولادة الحكومة، لم تثمر أيّ منها. لا الفرنسيون المدعومين أوروبياً وأميركياً ولا جامعة الدول العربية، ولا البطريركية المارونية، ولا حتى بري والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، نجحوا مجتمعين أو فرادى في دفع عون والحريري الى التأليف. حتى العقوبات الأميركية السابقة على وزراء سابقين، والعقوبات الأوروبية المرتقبة على «معطّلي التأليف» لم تؤثّر على المعنيين. في الموازاة، استمرّ خلال هذه الأشهر الانهيار على المستويات كلّها، و»الآتي أعظم وأصعب وأخطر» مع اقتراب موعد رفع الدعم في حزيران المقبل، كما نبّه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. إذ إنّ رفع الدعم في ظلّ عدم زيادة الأجور وهذه الأوضاع الاقتصادية المذرية، سيؤدي بحسب كثيرين، الى فوضى اجتماعية، أحد لا يعلم الى أين قد ستصل.
رفع الدعم هذا هو أحد الأسباب الذي يجعل الحريري «غير حاضر» للتأليف، بحسب فريق عون، إذ إنّه لا يريد حمل كرة النار هذه. الى هذا السبب تعدّدت العناوين التي اعتبر فريق رئيس الجمهورية أنّها تمنع الحريري من التأليف، ومنها انتظار «كلمة السر» السعودية، استهداف موقع رئاسة الجمهورية ورفضه الشراكة في التأليف، السيطرة على حقوق المسيحيين في التوزير والتأليف، وقبلها تخوّفه من فرض الإدارة الأميركية السابقة برئاسة دونالد ترامب عقوبات على الحكومة في حال تمثّل فيها «حزب الله». هذه الحجج كلّها واهية بحسب فريق الحريري، الذي يعتبر أنّ فريق عون ورئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل سيستمرّ في اختراع الحجج، فيما أنّ هذا الفريق هو من يمنع التأليف، مصراً على الحصول على «الثلث المعطل» في الحكومة.
وتلخّص مصادر قيادية في تيار «المستقبل» نصف العام الأول على تكليف الحريري، بأنّ «الوضع يزداد سوءاً، ولا نزال نعاني من منطق التعطيل المبني على طريقة التوريث، أي توريث عون الرئاسة لصهره باسيل، فضلاً عن الأبعاد الخارجية الواضحة المعالم، فلو كان «حزب الله» يريد التأليف لضغط على عون، لكن إيران لا تزال تنتظر». وتقول: «عدد الوزراء ليس الأساس، بل الثلث المعطل».
كذلك يعتبر فريق الحريري، أنّ المشكلة في ما يطرحه عون في كلّ اجتماع مع الحريري، فضلاً عن مشكلة أساسية، وهي «إحكي مع تيريز» أي تواصل الحريري مع باسيل.
أمّا لجهة القصر الجمهوري، فتستنتج أوساطه بعد نصف عام على التكليف وعدم التأليف، أنّ الحريري لا يريد التأليف، إذ إنّه يقضي وقته مسافراً ومتنقلاً من بلد الى آخر، من دون أن يُقدم على أي تطوُّر إيجابي وعلى التفاهم مع رئيس الجمهورية. وتقول، إنّ التأليف ما زال ينتظر الحريري وتوجّهه الى بعبدا للقاء عون والتفاهم معه.
من جهة «عين التينة»، حملت هذه الأشهر الستة تفاؤلاً حذراً، وعلى رغم العراقيل والتعطيل، استمرّ بري في مبادرته الحكومية، مؤكّداً أنّ «حزب الله» لا يعرقل بل يسهّل ويرغب في أن تبصر الحكومة النور. مبادرة بري انبثقت من روح المبادرة الفرنسية، وما زال يعمل على تسويقها، نظراً لما تحوزه من مباركة خارجية وشبه إجماع داخلي. في المقابل، ترى جهات سياسية، أنّ تمسُّك «الثنائي الشيعي» بوزارة المال للطائفة الشيعية، وفرض ذلك على الحريري، فتح الباب أمام مطالب الأفرقاء الآخرين، وأجهض المبادرة الفرنسية.
تتعدّد الاتهامات وأسباب تأخير التأليف، فيما النتيجة واحدة: لا حكومة. وبالتالي من دون حكومة، لا إصلاحات، ومن دون إصلاحات لا دعم مالياً خارجياً، وبلا هذا الدعم، الانهيار سيتواصل ولبنان سيغرق أكثر الى عمق يهدّد باختفائه كما تتخوّف جهات عدة، وعلى رأسها بكركي، وكما سبق أن حذّر وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان.
حكومة الحريري المرتقبة والتي هي «حكومة مهمّة» يُنظر إليها استراتيجياً، فهي قد تكون الحكومة الأخيرة في عهد عون، وقد تكون الحكومة التي تحضّر للانتخابات النيابية المقبلة في عام 2022، فضلاً عن أنّها قد تكون الحكومة التي تتسلّم الحكم في حال انتهت ولاية عون الرئاسية وتعذّر انتخاب رئيس آخر للجمهورية فوراً.
وهذه الحكومة الرابعة التي يترأسها الحريري في حال نجح في تأليفها ونالت ثقة مجلس النواب، ستكون حكومة الإختصاصيين غير الحزبيين الأولى التي يرأسها، في حال تمكّن من تأليف حكومة بهذا الشكل، بعد أن ترأس ثلاث حكومات «وحدة وطنية» أو «ائتلاف وطني»، الأولى في عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان والأُخريان في عهد عون. كذلك ستكون الأولى بلا مشاركة أو دعم حزب «القوات اللبنانية»، وقد لا تحظى بالغطاء المسيحي في حال لم يمنحها تكتل «لبنان القوي» برئاسة باسيل الثقة.
وعلى رغم غياب أي نور حكومي في الأفق، لا يزال الإعتذار عن التأليف غير وارد لدى الحريري حتى الآن، وسط دعم كبير من فريقه ومن المرجعيات السياسية السنّية. فإلى متى يستمرّ في محاولة التأليف؟ جواب فريقه: «الإعتذار غير وارد الآن، وهو يركّز على التأليف وفق المبادرة الفرنسية، وهو من سيتحمّل مسؤولية هذه الحكومة إذا فشلت أو نجحت، وبالتالي لن يتنازل عن أيّ من أسسها، خصوصاً لجهة الاختصاص والثلث المعطّل». فهل يكسر الحريري رقمه الشخصي السابق كرئيس مكلّف وتتخطّى فترة تكليفه التسعة أشهر؟