النائب بيار بو عاصي -اللواء
التضحية الطوعيّة بفردٍ فداءً عن جماعة غالباً ما شابها مفهومان خاطئان. الأوّل عندما ارتبطت الظاهرةُ بالمجتمعات البشريّة حصراً. اما الالتباس الثاني فهو ناتجٌ عن تسميتها بكبش الفداء، كأنّ الضحيّة حكماً حيوانية فداءً عن الانسان. لكنّ الواقع أشمل وأدهى.
البونوبو من فصيلة القردة العليا ويتشارك مع الانسان بـ99%من جيناته.
يعيش البونوبو ضمن جماعة بسلام ووئام اجتماعيين. من المميزات اللافتة لدى هذه الجماعة هي دور «كبش المحرقة». من دون أي سبب مفهوم، تحدّد انثى البونوبو المتزعمة للجماعة أحد أفرادها ليكون كبش محرقة. يتعرض هذا المسكين لكافة انواع الاعتداء والاذلال والضرب، من دون نيّة قتل، كي يستمر بلعب دوره المشؤوم وكي لا يؤول هذا الدور لغيره. اما اذا مات، فتسود العدائية الجماعة وتتراجع وتيرة علاقاتها الحميمة الى ان يتم تحديد كبش محرقة جديد فيسود الهدوء مجدداً.
هذا في ما خص البونوبو.
لكن الامر اكثر تعقيداً عند فصيلة الانسان العاقل Homo Sapiens.
المنظومة الاخلاقية عند البشر لا تتقبل استعمال كبش محرقة الا اذا كان ذلك معللاً بمصلحة عليا تخدم الجماعة.
مارسَت حضارات كثيرة طقوس التضحية بالفرد حماية للجماعة او تكفيراً عن ذنوبها.
ضحّى الفينيقيون بالاطفال البكر حماية من شرّ كبير.
مارس كذلك أكلة لحوم البشر طقوساً اعتقدوا بأنها مصدر قوةٍ وحماية لهم.
ويبقى الاغريق مصدر الهامٍ حضاريّ حتى يومَ كانوا يلجأون للتضحية بالبشر.
كان الاغريق يدهنون جسم الضحية بمادة لزجة ويلصقون عليها ريش الطيور قبل ان يرموها من علو شاهق في نهر مقدّس.
عمدَ الاغريق الى ذلك كي ينزعوا عن الضحية صفتها الانسانية فتغدو كالطير قبل ان تتحطم على الصخور وتغرق في النهر ارضاءً للآلهة وحماية للجماعة من غضبها.
استعمل الاغريق لذلك كلمة فارماكوس Pharmakos وهي تعني في نفس الوقت كبش الفداء والسمّ والدواء. ويبقى الرابط بين هذه المعاني رابط شفاء الجماعة بالموت من أجل الحياة.
وضعت الديانات السماوية حداً للتضحية بالانسان مع ابراهيم الذي منعه الرب من التضحية بابنه اسحق مستبدلاً اياه بالكبش. لكن المسيحيّة اعادت مفهوم كبش الفداء، حيث اعتُبِرَ المسيح المصلوب كبش فداءٍ عن البشريّة جمعاء تحت صرخات الجماعة المطالبة بصلبه مع اللصوص. ولم تتوقف في أيّامنا التضحية بكبش الفداء ولكنها تأقلمت دونما تغييرٍ في جوهرها. دخلت السياسة ولعبة السلطة على هذه الطقوس فباتت أكثر قبولاً في الشكل وأكثر عنفاً في المضمون.
في سياسة البشر، الزعيم بنيّة والجماعة بنيّة والضحية ضحية.
يستعمل الزعيم البشري كبش الفداء لتحويل الحقد والكراهية الى هدف جماعي مع ادعاء مصلحة عليا في ذلك. سهولة تحريك القطيع تفوق القدرة على تحريك المجتمع ولذلك لا بد من تحويل المجتمع الى قطيع من خلال فصله عن منظومة القيم والفكر.
وتبقى الحاجة لنزع الصفة الانسانية عن الضحية وتصويرها كمسخٍ بشري، جازَ، لا بل وجبَ، إلغاؤها.
يكمن وراء كلّ ذلك حاجة بشريّة دفينة للقضاء على كل ما يعتقد الفرد او تعتقد الجماعة بأنه نقص او تشوّه في ذاتها وهي تراه في الضحية وتعتقد بأنها اذا قضت عليها تقضي على النواقص في داخلها. إنه ما يعرف في علم النفس والاجتماع بمفعول المرآة. عوض قبول الصورة في المرآة، أو تصحيح الشوائب، نكسر المرآة فنعود الى وَهم كمالِنا.
ولكن ما السبيل لتنبيه الشعب بأن من يقدم بريئاً فريسة للناس يتحضر لافتراس كل الناس؟ أليس هذا ما ارتكبه ميشال عون يوم قدم القوات اللبنانية كبش فداء قبل ان تكر السبحة لتشمل كل من اعترضه في لعبة السياسة والسلطة؟
فجأة يصبح خصمه مجرماً وفاسداً وارهابياً بدون ان يخاصم يوماً لا مجرماً ولا فاسداً ولا ارهابياً إن هو دعم سياسته وسلطته.
لدى صاحب العهد القوي قدرة مميّزة على تحديد أكباش المحارق، إلغاءً وإلهاءً.
ككل منحرفٍ نرجسي، يطلِق من يدّعي ابوّة الجميع ابناءَهُ كقذائف بشريّة في وجه أخصامِهِ كما في وجهِ بعضهم البعض فيهلك الجميع لينجو هو.
وحده وعي الناس ورفضهم لمناورات الالهاء واحقاد الالغاء، يعيد للمجتمع قيمه وثقافته وانسانيته وحياته.
هنا لبّ المشكلة وحاجة الوعي الجماعي كممرّ الزامي نحو الخروج من الازمة الانسانية والوطنية التي نعيشها.