أخطر ما يواجهه باسيل هو أنّه لم يعد يمكنه إخفاء الحقائق أمام الكوادر والناشطين
كلير شكر-نداء الوطن
قد يظنّ البعض أنّ القدر فعل فعله مع جبران باسيل. ولكن فعلياً، هذا ما جنته يداه. هو الذي دخل منذ العام 2005، مربّع الفرص الذهبية، لتوضع بين يديه مع دخول ميشال عون قصر بعبدا، كل مفاتيح السلطة. وإذ به يكافح للبقاء في الحلبة السياسية، أقله كرئيس حزب. الحزب هنا هو “التيار الوطني الحر” الذي أمسك يوماً المجدّ من كل أطراف البلاد شمالاً وجنوباً، بقاعاً وساحلاً، مدعّماً بخزّان من القيادات، ليتحوّل إلى مجرّد هيكيلة تنظيمية كرتونية، فاقدة للروح والهدف والعصب!
جبران باسيل، الذي أحاط نفسه بـ”مدّاحين” موروثين ممن سبقوه إلى السلطة، صدّق “الكذبة الدعائية” التي أطلقها يوماً بوصفه بالرجل الذي لا ينام، أو الرجل الفولاذي كما قال عنه الرئيس ميشال عون منذ أيام، ووصلت به أحلام اليقظة إلى حدّ أنّه طرّز أكثر من “بدلة بيضاء”، من باب الاحتياط. فعلاً، عاش الرجل نشوة الرئاسة المبكرة.
في عزّ “سطوته” وسلطته، وضع ختميّ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة في جيبه، محمياً بمظلة تفاهم مار مخايل الحديدية، إلى أن أصبح هذا الالتصاق في العلاقة الثنائية “عبئاً” متبادلاً على الحليفين. اذ كلّما زاد التصاق باسيل بـ”الحزب” زادت أزمته مع الشارع المسيحي. والعكس صحيح. كلما أبدى “الحزب” حرصاً عليه وحماية له، ارتفعت نقمة الشارع المسيحي على “الحزب” بسبب سلوك الحليف المسيحي وشخصيته.
كان الشارع المسيحي ملعب خيله. صال وجال في أصقاع الأرض، وسجّل عدداً قياسياً من الإطلالات الإعلامية والمؤتمرات الصحافية (ينتظر أن يطلّ ظهر يوم السبت). لعل في أرشيفه آلاف المواقف ولكن المتناقضة. بات مهووساً بصورته. المنقذ. الزعيم المشرقي. بنى كل استراتيجيته على الدعاية المبالغ فيها التي تصل إلى حدّ الوهم. لكنه في المقابل، تجاهل أبسط القواعد وأكثرها بديهية: الوحدة مصدر القوة، والبناء على الرمل، لا يصمد أمام العواصف. وهذا ما حصل.
صرف كل نفوذه لمراكمة السلطة والمال، حيث كان يردد في حلقاته المقفلة، أنه في حال أقفلت أبواب السلطة في وجهه، فسيكتفي بمنظومة المصالح التي بناها، واذ بالعقوبات الاميركية تضرب السلطة وأي امكانية للتمتع بما حققه من مصالح.
على عتبة دخول العهد عامه الأخير، تبدو أزمات جبران باسيل مضاعفة: بلد ينهار ويكاد ينفجر. توتر على كافة الجبهات، مع الحلفاء قبل الخصوم، واهتزاز واضح في صفوف نواب وكوادر حزبه. نزيف الهجرة يقضم الشارع المسيحي ويعرّيه. الدول الكبرى تتهمه بعرقلة قيام حكومة انقاذية. أمّا حزبه، فيبحث عن قارب الانقاذ لدى من “خوّنهم” وسطّر بحقهم مذكرات طرد.
الأرجح أنّ الرجل بات يعاني أزمة ثقة مع كل من هم من حوله. القريبون قبل البعيدين. يحاول التمسّك بحبال الهواء لكنه بالنتيجة يغرق أكثر فأكثر. اذ حين تبلغ الأزمة النواة الصلبة، فهذا يعني أنّ الخطر بات وجودياً.
التباينات الداخلية
بالتفصيل يتبيّن أنّ التباينات داخل “تكتل لبنان القوي” و”التيار الوطني الحر” خرقت الأبواب المغلقة وباتت تسمع أصداؤها في الخارج وكان آخرها الخروج المدوّي لنائب رئيس مجلس النواب ايلي الفرزلي. كُثر من أعضاء “التكتل” يشعرون بأنّ سلوك تيارهم “انتحاري” ويرفضون مجاراته، فيما تزدحم التساؤلات بين القواعد وفي مختلف المناطق حيال ما آلت اليه الأمور في العهد العوني، وحول أسباب الفشل الذي يتحمّل القسم الأكبر منه باسيل بإدارته المتفرّدة، ليس فقط لـ”الحزب” بل أيضاً لأروقة القصر الجمهوري منذ دخول الرئيس عون بعبدا، وكان آخر تجلّياته إنزال “فيلق خاص” من مستشاريه على أرضه!
ومع إزدياد الخواء السياسي في حياة باسيل في ظلّ عزلته الدولية والمحلية، لتقتصر لقاءاته السياسية على الحاج وفيق صفا، يملأ رئيس “التيار الوطني الحر” الكثير من وقته في الشؤون الحزبية الداخلية، فيجري تعيينات طالت كوادره الوسطى، مستبدلاً كل منسقي الأقضية الذين يعتبرون حلقة الوصل بين القيادة والقاعدة، بآخرين اختارهم بمفرده، لعلّه يروي تعطّشه للسلطة داخل “الحزب” تعويضاً عن عجزه المتزايد في ممارستها على صعيد البلد، أو يفتح النقاش حول إجراء إنتخابات تمهيدية وهي الآلية التي استعان بها في العام 2018 عشية الانتخابات النيابية، لغربلة الترشيحات قبيل دخول مدار انتخابات 2022، والتي تلقى برودة كبيرة في ردّ الفعل إزاءها، سواء من بعض المرشحين والنواب لما حملته تلك التجربة من مساوئ وتشرذم داخلي، أو من القاعدة الحزبية التي بات يقتصر همّها على أن تُعطى خبزها كفاف يومها.
إستدعاءات… وحوارات مع معارضين
في الواقع، يعاني “التيار” من “ديليما” لا يحسد عليها: تستدعي المحكمة الحزبية محازبين تقدموا باستقالاتهم منذ أشهر وبعضهم منذ سنوات. في المقابل، تمدّ بعض قيادات الحزب خطوط الاتصال والتواصل مع معارضين بهدف اعادتهم إلى التنظيم، وفي محاولة أخيرة لانقاذ الوضع مع اعترافهم بأنّه “منهار”. ثمة كلام كبير بحق الحزب ومصيره يقال في الجلسات المقفلة.
ولهذا لم تفهم حقيقة خلفية الاستدعاءات “الكاريكاتورية” ولماذا نُبشت هذه الملفات التي صار عمرها سنوات (لم يحضر أي من المستدعين إلى ميرنا شالوحي). الأكيد أنّ التوقيت ليس بريئاً، والأرجح أنّ تلك الخطوة خلقت خلافات في الداخل، خصوصاً وأنّها تأتي في ظروف سياسية استثنائية، وبالتالي قد تثير السخرية لا أكثر. ولذا ثمة من يعتقد أنّ الهدف منها هو احراج من يحاولون التواصل مع المعارضين، لا أكثر.
أخطر ما يواجهه رئيس “التيار الوطني الحر” هو أنّه لم يعد يمكنه اخفاء الحقائق أمام الكوادر والناشطين كون الاحداث والتطورات أقسى من اخفائها أو تجميلها ببعض الشعارات، خصوصاً وأنّ معظم كوادر الحزب وناشطيه هم من الطبقة الوسطى المثقفة والتي تمتلك الخبرة الكافية لفهم السياسة. وهؤلاء هم الأغلبية الصامتة الذين باتوا يسألون أسئلة كبيرة حول المصير والمستقبل. هكذا، يمكن الاستنتاج أنّه لم يعد أمام باسيل إلّا خياران: إمّا الانتحار السياسي بكل ما يستتبع ذلك من تبعات وتداعيات عليه وعلى كل من شاركهم السلطة والمصالح، وإمّا الانقلاب على سلوكه انقاذاً لـ”التيار” ما قد يساعده على لجم الانهيار الداخلي، وحماية ما تبقى من نفوذه.
ما يزيد من صعوبة الوضع، هو التعاطي السوريالي مع التطورات: بين ليلة وضحاها يتحول “التيار” من نهر جارف إلى قوة مستسلمة، ضعيفة، عاجزة عن مواجهة الأحداث واقناع الناس. وما المعارك الدونكيشوتية حول ترسيم الحدود، تأليف الحكومة، التدقيق الجنائي، استقلالية القضاء، انسداد الأفق السياسي، الا بعض من نماذج سوء الإدارة… فيما الناس فاقدة للثقة بكل طقوس الكلام الذي يُتلى على مسامعها، لأنّ أقصى طموحها هو تأمين مأكلها ومشربها.