المُحلّل الاقتصادي-الديار
من المعروف في كل دوّل العالم أن كيان الدولة يتجسّد بمؤسساتها. فكلما كانت هذه المؤسسات صلبة وعادلة وشفافة، كلما كان كيان الدولة بخير. إذًا تفكّك الكيان في دولة مُعيّنة يبدأ بمؤسساته وهو ما يحصل حاليًا في لبنان. فبعد أن عبث الأداء السياسي في مؤسسات الدولة كافة، ها هو يعبث بأهمّ ثلاثة أعمدة لكيان الدّولة.
العبث بوزارات ومؤسسات الدولة بدأ مع نشوء الدولة اللبنانية. فالفساد عبث بمؤسسات الدولة مما دفع الرئيس فؤاد شهاب إلى وضع مجموعة من القوانين للحفاظ على مؤسسات الدولة حيث أن كل هذه القوانين ما زالت سارية المفعول حتى يومنا هذا. لكن الحرب الأهلية إنتهت بخلق مجموعات ظاهرها طائفي وباطنها مصالح خاصة نجحت في خرق مؤسسات الدولة وسيطرت عليها بشكل شبه كامل.
فبعد إنتهاء الحرب الأهلية وبدء مرحلة الإعمار، تغلّغلت هذه المجموعات في القطاع العام سواء كموظّفين، مديرين… وأصبح الولاء للمجموعة شبه كامل على حساب الدولة والمصلحة العام كأن الدولة ليست ملك اللبنانيين وكأن المال العام هو مال لا يعود إلى اللبنانيين.
التقديرات العامّة لحجم الفساد والهدر في الدولة على مرّ عقود يتخطّى العقل والمنطق. فهناك مئات مليارات الدولارات التي تمّ إستنزافها من خزينة الدولة بحجّة الحفاظ على السلم الأهلي! ومن منا لا يتذكّر أن كل خلاف بين المجموعات كان ينتهي بتسوية على حساب المال العام!
عبثت هذه المجموعات بكل وزارات ومؤسسات الدولة وأصبحت ولاءات موظّفي الدولة (خلافًا للقانون) هي للمجموعات التي ينتمون إليها بدل أن يكون للدولة ولمؤسساتها. وبالتالي أصبح كل قرار في الدولة (مهما كان نوعه) محكوما بتوافق هذه المجموعات التي سيطرت على كل مفاصل الدولة من خلال التوظيف في القطاع العام ومن خلال السيطرة شبه الكاملة على نتائج الانتخابات بغضّ النظر عن طبيعة قانون الإنتخاب.
مصرف لبنان هو المؤسسة الوحيدة التي استطاعت الحفاظ على نفسها خارج اللعبة، إلا أن هذا الأمر لم يعد صحيحًا منذ تشرين الأول 2019. وبغض النظر عن الأسباب، بدأ التدخل بالمصرف وبعمله من خلال التصريحات على المنابر حتى وصلنا إلى مرحلة المزايدة وكان الأجدى بالأمر إسناد الأمر للقضاء وتركه يقوم بعمله.
لكن وكما تعرف هذه المجموعات، الخرق كبير حتى في القضاء، وبالتالي ما شهدناه في المرحلة الماضية وآخرها البارحة، هو دليل على مدى خرق السياسة للجسم القضائي مما يُعطّل أي عمل قضائي له إلا بتوافق المجموعات فيما ما بينها. فالإنقسام الذي حاصل منذ يومين بين شارعين بدعم قضاء يدلّ على أن القاضي في لبنان لم يعد يصدر أحكامه باسم الشعب اللبناني، بل باسم قسم من هذا الشعب. وهذا كارثي نظرًا إلى أن القاضي النزيه أصبح بنظر الشارع المُعارض للمجموعة التي عينته، غير نزيه!
وها هي المجموعات تُحاول التدخل في عمل المؤسسة العسكرية من خلال الهجوم على رأس المؤسسة والتدخل في تعييناتها. إلا أن قائد الجيش استطاع الصمود (حتى الساعة) في وجه هذه التدخلات.
هذه المؤسسات الثلاث تُشكّل نواة الدولة في كل دول العالم، وأي ضرب لمؤسسة من هذه المؤسسات يعني بكل بساطة أن كيان الدولة بدأ بالإنهيار.
الهجوم الذي تقوده المجموعات على مصرف لبنان وعلى حاكمه ضرب الكيان اللبناني من خلال بدء عزل لبنان عن النظام المالي العالمي. ففي تصريح لوكالة التصنيف الإئتماني موديز، إعتبرت الوكالة أن فقدان لبنان لعلاقات المراسلة المصرفية سيُسرّع من تراجعه الاقتصادي.
وأضافت أن «التعدي على الاحتياطيات الإلزامية للبنوك لدى مصرف لبنان في ظل استمرار مأزق الحكومة سيزيد من المخاطر على البنوك، مما يعرض لخطر ما تبقى للبنان من علاقات مراسلة مصرفية، ويقوض بدرجة أكبر توافر خدمات المدفوعات العابرة للحدود من أجل التحويلات والتجارة والسياحة، وهي من الدعائم الرئيسية للاقتصاد».
وأضافت الوكالة في تقريرها أن «فقدان علاقات المراسلة المصرفية بشكل دائم سيزيد من اعتماد لبنان على التمويل الخارجي الرسمي، إذ ستظل المدفوعات العابرة للحدود وخدمات المقاصة في حالة من الشلل حتى بعد إعادة هيكلة شاملة للديون، مما سيثبط أي تعاف محتمل».
واشار إلى أن الإحيتاطات القابلة للإستخدام خارج الإحتياطي الإلزامي، إنخفضت إلى مليار دولار في نهاية شباط 2021 مُستندة إلى بيانات المصرف المركزي وهافر أناليتكس.
عمليًا، إقفال حسابات المصارف المراسلة لحسابات مصرف لبنان ناتج من الضجّة الإعلامية التي تقودها بعض المجموعات والتي وصلت أصداؤها إلى المصارف المراسلة التي تخشى من دعاوى قضائية قدّ تُحّملها خسائر مالية هي بالغنى عنها، بالإضافة إلى عوامل سياسية لها علاقة بالملفات الإقليمية والضغوطات الدولية على لبنان.
هذا الإقفال سيؤدّي حكمًا إلى عزل لبنان مصرفيًا بعدما عزلته حكومة الرئيس حسان دياب ماليًا مع وقف دفع سندات اليوروبوندز. وبالتالي كيف يُمكن للبنان تأمين حاجاته الغذائية والمواد الأوّلية من محروقات وأدوية في المرحلة المُقبلة؟
هذا الواقع يوصل إلى إستنتاج حتمي وهو إعفاء المؤسسات الثلاث – الجيش، والقضاء، ومصرف لبنان – من الصرعات السياسية التي يدفع ثمنها المواطن قبل أي شخص أخر. نعم الخاسر الأول من كل هذه المواجهات هو المواطن الذي يُريد ماله المحجوز في المصارف، والإستمرار في الحصول على المواد الغذائية وحاجاته من الأدوية.
وإذا ما إستمر الصراع السياسي بين المجموعات على ما هو عليه، فإن المرحلة المُقبلة ستكون كارثية على المواطن الذي حتى ولو إمتلك المال، فإنه لن يستطيع إستيراد حاجاته الأساسية من غذاء ودواء وغيرهما. لذا ورأفة بالشعب اللبناني، يجب إيقاف هذه المهزلة وتشكيل حكومة قادرة على إعادة كرامة المواطن وحقّه في العيش الكريم.
صدق القول «السياسة هي فن تعليم الفضيلة لعامّة الشعب»!