لم يكن القضاء بخير، حتى قبل ملهاة القاضية غادة عون التي أنعشت ركود الويك أند في زمن القحط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولم تكن الضربة القاضية التي وجهتها القاضية عون للسلطة الثالثة إلا استكمالاً لمأساة سقوطها في لبنان، منذ زمن، بالنقاط وبالتدريج مع الضعف التدريجي والمتلاحق لمؤسسات الدولة وصولاً إلى ما نحن فيه.
وليس سراً أن القضاء لم يكن بخير قبل ذلك. وفي المعطيات الراهنة والسابقة واللاحقة، لا شيء يوحي بأنه سيكون بخير، ليس فقط لأن التعيينات القضائية تخضع للمحاصصة، وليس لأن أي تفتيش قضائي أعجز من أن يذهلنا بخطوات تطهيرية وتصحيحية تعيد فعالية هذه السلطة الثالثة والأساسية المفترض أن تكون مستقلة وفوق كل السلطات لتسائلها وتعاقبها وتكف يدها، عندما تنتهك القوانين وتقود الوطن والمواطنين إلى جهنم. ولكن لأن السقطات القاتلة التي تباركها السلطات القاتلة تتوالى منذ رُسِمَ الخط البياني لهذا البلد ووضعه على فالق زلازل المنطقة.
القضاء لم يكن منذ انتهاء الحرب الأهلية سلطة ثالثة. بقي مشلولاً عندما تم اغتيال الرئيس رينيه معوض، وظهر شريكاً متواطئاً في تركيب الملفات لغايات سياسية، كانت تزيح من لا يعجب لون عينيه الوصاية السورية وأتباعها.
والقضاء منتهك منذ ضغطت هذه الوصاية لإلغاء تعديلات تتعلق بقوانين أقرها مجلس النواب قبل عشرين عاماً. ومنذ تلكأ هو والسلطات الأمنية عن أي متابعة فعالة لقرارات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، واستقال من محاسبة المعلوم المجهول في ملف الشهداء سمير قصير وجبران تويني وبيار الجميل وجورج حاوي، ومحمد شطح ووسام الحسن ووسام عيد ووليد عيدو وجورج غانم وفرنسوا الحاج ووسام حنا ومحاولة اغتيال مروان حمادة ومي شدياق والياس المر. هذا عدا السهو والغلط… وقبل التصريح الأريحي بأن “التهريب جزءٌ لا يتجزأ من المقاومة”، تماماً كالسلاح غير الشرعي وشبكة الاتصالات غير الشرعية وإمساك المعابر البرية والبحرية والجوية، في حين أصبح مفهوم “المقاومة” عابراً للحدود والقارات، بينما العدو الصهيوني يسرح ويمرح بأمان من القدس إلى طهران. وقبل وبعد جريمة تفجير المرفأ التي نسفت قلب بيروت ببشره وحجره وقضت على مفهوم الأمان.
القضاء ألعوبة منذ أن انتابه الشلل الاستنسابي والذرائعي في ملف موقوفين لسنوات بانتظار المحاكمات التي لم تأت بعد لتتم مقاضاتهم أو تبرئتهم، ليصار إلى استغلال قضايا الإرهاب غب الطلب خدمة للمشروع الأقليمي.
فالسلطة الثالثة ليست بخير قبل ملفات الفساد وبعدها، وقبل “الإبراء المستحيل” وبعد وضعه على الرف. وقبل الكيديات التي اقتصرت على من كان يسير ضد التيار، ويسمح لمن يحمل لواءه أن يتحول رأس حربة بتوجيه فاسدين بعينهم لمحاسبة فاسدين ضدهم، ويرمي حرام تهمة الفساد على من يجب أن يخلي الساحة السياسية لهم، وقبل تصريح رئيس الهيئة التشريعية أن “الضعفاء فقط يلجأون إلى القضاء”، وقبل إحلال التصفيات الجسدية لإزاحة من يعرقل المشاريع الاستراتيجية الإقليمية، واعتبارها وسيلة أفعل وأسرع من تركيب الملفات وإحالة “المزعجين” إلى القضاء.
لا سلطة لهذه السلطة الثالثة، لأن كل المرتكبين لا حكم عليهم. هناك فساد شعبوي وليس هناك فاسدون. وهناك استنساب في فتح الملفات الكيدية. ومن لا يعجبه فليبلط البحر، لتقع تبعات غياب سياسة الثواب والعقاب على المواطن الذي تتهمه المنظومة بالتخاذل لعجزه عن اقتلاعها من جذورها.