بانتظار اقرار قانون استقلالية القضاء وإبعاده عن الأهواء السياسية في التعيينات، يشهد محيط المحكمة العسكرية كل مرة، اعتصاماً مرافقاً للمحاكمات تنظمه مجموعات مدنية وناشطون وحقوقيون وصحافيون يرفعون شعارَيْن أساسيَيْن: “المحاكم مش للأحرار”، و”المحكمة العسكرية مش للمدنيين”، رافضين حكماً طال لعقود وبالنسبة لهم يحقق المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة ويستخدم “مبدأ التحيّز لمن ينتمي إلى السلطة الحاكمة ويلوذ بها، واضطهاد وتهميش من يخالفها في السياسات والمواقف والأهداف”. والملفت هذه المرة أن أحد الموقوفين “ابراهيم النعيمي” هزّ المحكمة بمداخلة دفاعية عن نفسه، أجفلت القضاة والمحامين في آن وانتهت إلى الحكم بإعلان براءة جميع من مثل أمام المحكمة، فما الذي قاله؟
كلمة مزلزلة
“قطعاً، كانت كلمة مُدهشة وواقعية التفاصيل حدّ الانبهار، خطفت الأبصار وحرّكت مشاعر جميع من حضروا في قاعة المرافعة، انحنت لها أعمدة المحكمة وأشعلت جمر المآسي التي دفعت بأي لبناني إلى التظاهر. حتى أنني لم أضطر إلى إجراء مرافعة سياسية ثورية وحصرت مرافعتي بالشق القانوني حصراً” بهذه الكلمات وصف محامي الموقوفين أيمن رعد لـ”نداء الوطن” ما حدث خلف جدران قاعة المحكمة العسكرية بعد مداخلة الموقوف إبراهيم نعيمي وتابع “جاء كلامه ثرياً في الحقائق وجدانياً يظهر وعياً ثورياً متقدماً وعابراً للألم، فرض سماعه مطوّلاً وأرجع كل الحاضرين إلى السبب الأساسي لنزولهم كمواطنين أحرار إلى الشارع ولماذا تخطت احتجاجاتهم المطالب الخدمية التي تسائل المنظومة عن عدم توفير أهم متطلبات الحياة الضرورية كالكهرباء والبطاقة الصحية ووصلت إلى شعارات سياسية في مقدمها “كلن يعني كلن” في إشارة إلى أن الشعب تحوّل إلى قوى تغييرية طامحة لنهج مختلف”.
ويتابع “لم أكن أعرفه حق المعرفة على المستوى الشخصي، إذ أنني وزملائي المحامين الحاضرين من لجنة الدفاع عن المتظاهرين بتكليف من نقابة المحامين في بيروت كغيدا فرنجية ومازن حطيط والشريف سليمان ووائل همام ومايا الدغيدي، نترافع بنحو 40 ملف محاكمة، وفي كل ملف مجموعة من الموقوفين، وأسعدني كل ما قاله، بحيث أظهر وعياً لحقوقه المدنية وواجباته وبمحاولات الطغمة الفاسدة بوصمه بتهمة “المشاغب” التي لا تليق به ولا برفاقه وبسلبه أهم سنين حياته ومستقبل أولاده وحقه بحرية التظاهر الدستورية بمعزل عما تخلل أي تظاهرة من التظاهرات من أعمال شغب، وهو وعي بدأت ألمسه وأختبره بشكل يومي كمحام عن الثوار وهذا ما يخيف منظومة الحكم ويجعلها تستشرس لهذه الدرجة في مواجهة الثورة”.
وقف المواطنون المدعى عليهم أمام قاضي التحقيق ومفوض الحكومة في صفٍ واحد، وبدأت مساءلتهم واحداً تلو الآخر إلى أن وصل الدور إلى وسيم صوّان الذي قال ان “الإشكال الذي حدث في سعدنايل بعيد بمسافة 3 كيلومترات عن آخر المنطقة” في تبرير بأن توقيفه جاء تعسّفياً، فرد المفوض قائلاً “شاهدنا في فيديو كيف راشق الثوار عناصر الجيش بالحجارة” فما كان من ابراهيم النعيمي إلا أن قاطعه قائلاً “وهل شاهدتم كيف انفجر مرفأ بيروت على رؤوس أبنائه؟ نحن أيضاً شاهدنا كيف دُمّر نصف عاصمتنا”! انتفض المفوّض قائلاً “انت تُحرّض على رمي الجيش بالحجارة!” فرد النعيمي “كلا، إلا أنه كما شاهدتم أنتم كيف تمت مراشقة العناصر بالحجارة، جميعنا هنا في القاعة، شاهدنا كيف تفجّرت بيروت عن بكرة أبيها، في حين لم يُحرّك أحدكم ساكناً…
نحن نحترم الجيش والمؤسسة العسكرية ونجلّها إلا أن معظمنا تعب من الوضع ونزل إلى الشارع لايصال صوته” فرد المفوض “هناك بعض المندسين بينكم إذاً” فقال النعيمي “ليس بيننا مندسون، هؤلاء شباب بين 17 و19 عاماً، أنا أكبرهم، اندفعوا للدفاع عن حقوقهم، خسروا قوتهم ومستقبلهم، أكثر من نصفهم بلا عمل وبلا دراسة ولا مستقبل ويقبعون تحت خط الفقر وانتم تبحثون عن الحجر” ومن ثم توجّه إلى العميد في المحكمة قائلاً “حضرتك من بعلبك، هل تقوى على الخروج من منزلك في الساعات المتأخرة من الليل؟ وهل تستطيع استقبال ضيف في المساء وهل “بيسترجوا يفلّوا من عندك بالليل وبمنطقتك”؟ وقع عندنا في سعدنايل شاب عن جسر المشاة وكان على وشك الموت، ولم يتم التحقيق بملفه أو السؤال “ليش العسكر دفشوه”، في حين أن هناك 50 فيديو يوضح المتورطين” وتواصل كلامه لنصف ساعة متواصلة في الكلام عن المعاناة والحرمان الذي أفقدهم الأمل بمستقبل أفضل.
اعتقالات وتجاهل للحقوق
كشفت احتجاجات تشرين، استمرار آليات القمع وانتشار ثقافة التوقيف لدى عدد من النيابات العامة وقضاة التحقيق، بحيث، يُستدعى انتقائياً العديد من النشطاء في أسلوب بوليسي لقمع كلمتهم الحرة، أو يُسجّل توقيف لأشخاص يتبيّن بعد التحقيق في المعطيات أنهم “ضد الثورة” وذلك بناء على برقيات من مُخبرين تبقى سريّة، كما يتم استعمال العنف المفرط والضرب للبعض كالذي حدث مع الناشط محمد بزيع المُلقّب بفتى المصارف من انتهاكات مصوّرة لقوة مكافحة الشغب، أو حتى تُفبرَك للبعض الآخر ملفات “قدح وذم وتهديد ومنع مزاولة مهنة” كالذي حدث مع الناشطة هبة دندشلي.
وفي حديث خاص لـ”نداء الوطن” قال ابراهيم النعيمي “أنا أب لثلاثة أطفال مجهولي المستقبل، ومسؤول النقل العمومي بالبقاع ولست من الزعران بل انا ثائر حقوقي أبحث في خيبة أيامي كلبناني عن أمل. تم استدعائي أولاً بناء على أحداث وقعت في 25 تشرين الثاني 2020 وتم التحقيق معنا في “ابلح” لنفاجأ بعدها باستدعاء آخر إلى المحكمة العسكرية في 16 نيسان، وهو ما يفتقد لشروط المحاكمة العادلة المُكرَّسة في العهد الدولي لحقوقي المدنية والسياسية، بحيث يغيب حقنا بالاستئناف، ونترافع مقابل ضباط لا يتمتعون بضمانات الاستقلالية ولا حتى أحياناً بالمعرفة القانونية الكافية، ناهيك عن أننا كمدنيين نوضع تحت مجهر القمع أمام محكمة “عسكرية” تكون فيها هي الحكم والخصم في آن معاً. لذا أصررت على الكلام في المحكمة لأنني أرفض اتهامنا بملفات فارغة لا تهدف إلا لتخويف الناس من النزول إلى الشارع، واضعاً في ذهني ما حدث مع نشطاء أدلوا بشهاداتهم من المستشفيات بعد تعرضهم للضرب المبرح، وما حدث تحديداً مع الناشط علي وليد الحمد، الذي ضرب على رأسه بينما كان يتظاهر بسلمية، وذهب إلى عناصر الأمن لمساعدته فاقتادوه إلى الاعتقال ولم ينظر في موضوع الاعتداء عليه”.
عنف غير مبرر
في السياق، أسف الناشط محمد بزيع، وهو من جملة من تم استدعاؤهم إلى المحكمة العسكرية كيف “تستسهل النيابات العامة إحالة ملفات فارغة المضمون بموجب “الحق العام” إلى المحكمة العسكرية وبدون مبرر للتهم وغير مقرونة بأدلة دامغة، ندفع ثمن محاكماتها كمواطنين أي تُقام من مالنا وضرائبنا التي ندفع، والتي يمكن أن تلوث سجلاتنا العدلية كمواطنين، وتترك ملفات دسمة مليئة بالفساد الموثق”. وتابع لـ”نداء الوطن” قائلاً “عندما تم اعتقالي، تعرضت لعنف غير مبرر وضربت لمدة لا تقل عن 10 دقائق من عناصر مكافحة الشغب ومن ثم تم اقتيادي إلى ثكنة الحلو، وذلك لأنني كنت أتحدث عن حقوق العسكر المهدورة”.
وتؤكد الباحثة في لبنان والبحرين في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “هيومن رايتس ووتش” آية المجذوب لـ”نداء الوطن” أن على البرلمان اللبناني إقرار قانون لاستثناء المدنيين من صلاحيات القضاء العسكري بحيث أن هيكلية المحاكم العسكرية ونظام تعيين القضاة فيها يقوّضان كفاءتها، واستقلاليتها، وحيادها. فوزير الدفاع هو من يعيّن القضاة العسكريين، وهم غير ملزمين بالحصول على شهادات أو تدريب في القانون. يبقى ضباط الجيش العاملون كقضاة تابعين لوزارة الدفاع خلال خدمتهم. ويخضع حضور المحاكمات العسكرية لقيود، وبالتالي يصعب على المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام مراقبتها بحرية. كما يبدو أن المحتجين يواجهون تهماً لا أساس لها أمام المحاكم العسكرية غير العادلة بطبيعتها، والتي يجب ألا يكون لها سلطة على المدنيين بموجب القانون الدولي”.
نتائج الجلسات حتى الآن
أولى الجلسات انعقدت نهار الإثنين 12 نيسان لعشرة مواطنين حضر منهم إثنان فقط (لعدم تبليغ الآخرين) وقد تم تأجيلها حتى 3 تشرين الثاني القادم إلى حين تبليغهم بتهمة «معاملة قوى الأمن بالشدة» كما رفضت المحكمة طلب المحامية غيدا فرنجية فصل الملفات كون أحد المدعى عليهم قد تعرّض للتعذيب بعد إلقاء القبض عليه في التظاهرة وهو ما يؤكد أن قانون معاقبة جرائم التعذيب رقم 65/2017 لا يزال حبراً على ورق.
أما لناحية جلسة الثلثاء 13 نيسان، فقد تم ترك الناشطتين نسرين شاهين وهبة دندشلي بسند إقامة، مع الاحتفاظ بحق الادعاء ضد مستشار النائب جبران باسيل المحامي ماجد بويز، بعد مثولهما لدى الشرطة القضائية في ثكنة بربر خازن- فردان. بحيث اتهمهما بويز بجرم «قدح وذم وتهديد ومنع من ممارسة المهنة» على خلفية دعمهما انعقاد التحقيقات مع الناشطين جينو رعيدي وتيمور جريصاتي في دعوى رفعها الوزير السابق فادي جريصاتي حيث تأخر بويز 5 ساعات عن الحضور. وفي جلسة الأربعاء 14 نيسان، صدر حكم براءة بنتيجة عدم كفاية الأدلة، عن المحكمة العسكرية في ملف 4 شبان احتجزوا في «ليلة ثكنة الحلو» (حينها تم اعتقال نحو 60 ناشطاً). وبالنسبة للجلسة الأخيرة نهار الجمعة 16 نيسان، خُتمت ثلاثة ملفات بـ15 حكم براءة على خلفية تظاهرات جلسة الثقة الحكومية في شباط 2020 وتسكير طرقات في سعدنايل، واتهام ناشط بقدح وذم المؤسسة العسكرية وتحقير رئاسة الجمهورية في تدوينات على فيسبوك تناولت قمع المتظاهرين في جل الديب.