بالكثير من الخفّة، يجري التعامل مع ملفّ ترسيم الحدود الجنوبية. بعد تعديل «الحق» اللبناني من 860 كيلومتراً مربعاً إلى 2290 كيلومتراً مربعاً، «اكتشف» فريق قائد الجيش العماد جوزف عون خطاً جديداً، قرّر أن يسمّيه «خط قانا»، يعطي لبنان نحو 1300 كيلومتر مربع. وقد عُرض الاقتراح على رئيس الجمهورية الذي يصرّ على تأمين موقف وطني موحّد خلف قرار الترسيم. الرئيس نفسه لا يرى أملاً بتأليف قريب للحكومة، ويركّز اهتمامه على ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، مطالباً القضاء بكفّ يد رياض سلامة عن متابعة عمله!
حتى اللحظة، لا يُظهر التعامل مع ملف ترسيم الحدود سوى الكثير من الخفّة، رغم كل ما فيه من خطورة على الأمن الوطني. ففي الأشهر الماضية، تغيّر تصوّر فريق قائد الجيش للحدود، ثلاث مرات، من دون طرح أيّ خط أحمر لا يمكن التراجع عنه. بل يجري التعامل مع جميع الخطوط كأوراق للتفاوض، كما لو أن العدوّ الإسرائيلي لا يملك القوة ولا الحيلة ولا الخبرات التفاوضية، ولا الدعم الأميركي اللامحدود، وما على لبنان سوى «زركه» في الزاوية بتعدّد الخطوط، وتحريكها تارة إلى الجنوب وطوراً إلى الشمال، لدفعه إلى التنازل.
الرئيس ميشال عون، الذي يفكر في ضرورة توفير قاعدة وطنية جامعة حول الموقف من ترسيم الحدود، أوفد أمس أحد مساعديه، برفقة اللواء عباس إبراهيم، الى الرئيس نبيه بري لسؤاله التنسيق حول الموقف. لكن بري كان حاداً في مقاربته لجهة قوله «عندما كان الملف معي، كانت الأمور تسير وفق ما هو مناسب مع المصلحة الوطنية، وها هو الملف صار بعهدتكم وأنا أوافق على ما ترونه أنتم ولا أريد الدخول في أي نقاش حول الترسيم».
ومن المفترض أن يصار اليوم الى عقد اجتماعات إضافية لفريق التفاوض العسكري من أجل تنظيم اقتراح مرسوم تعديل الحدود بصيغة جديدة، مع مراعاة «المخاطر» الناجمة عن التهديد الأميركي بوقف أيّ مساعٍ لإطلاق المفاوضات من جديد وبأن «إسرائيل» لن تتوقف عن مشروع استخراج الغاز من المنطقة التي يقول الجيش إنها لبنانية، وهو المشروع الذي سينطلق في حزيران المقبل. فقبل زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، لبيروت الأسبوع الفائت، كان فريق قائد الجيش يجزم بأن العدو سيوقف خططه لاستخراج الغاز من الحقول القريبة من الحدود، فور تحوّلها إلى منطقة متنازع عليها. وتحويلها إلى «متنازع عليها» لا يحتاج سوى إلى إرسال لبنان كتاباً إلى الأمم المتحدة يبلغها فيها بحدوده الجديدة. إلا أن هيل أكّد للذين التقاهم، ومن بينهم قائد الجيش، ما سبق أن قالته السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، لجهة أن «إسرائيل لن تكترث بالرسالة اللبنانية، ولن توقف مشروع استخراج الغاز في حزيران المقبل».
«مفاجآت» ترسيم الحدود الجنوبية لم تقف عند ما سبق. فرئيس الجمهورية، المعني الأول بالتفاوض، لم يكن على علم بأنّ العدوّ أنجز، منذ سنوات، عمليات استكشاف النفط والغاز في منطقة الحدود! وبحسب مصادر بعبدا، لم تكن قيادة الجيش قد أبلغته بهذا الواقع، وأنه كان يعتقد بأنّ ما سيبدأ في حزيران المقبل هو عمليات استكشاف لا عمليات استخراج للغاز! ووصلت إلى عون آراء تجزم بأن موقف لبنان سيكون ضعيفاً، لأنه لم يسبق أن طالب بالمنطقة الواقعة جنوبي الـ 860 كيلومتراً مربعاً، رغم علمه سابقاً بأن «إسرائيل» أنجزت كل عمليات الاستكشاف والدراسات، وصولاً إلى «بيع» حقول الغاز لشركات أوروبية، مع ما يعنيه ذلك من تبعات مالية كبيرة سيتكبدها لبنان في حال فرضه وقف التنقيب، ولم يتمكّن لاحقاً من إثبات حقه!
سياسياً، لا يبدو أن مبادرة داخلية ستحرّك مياه تأليف الحكومة الراكدة. لأجل ذلك، انتقل شدّ الحبال الداخلي إلى مسألتين مترابطتين: الأولى، التدقيق الجنائي؛ والثانية، التحقيقات التي كانت تقوم بها النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون.
آخر المشاورات الحكومية لم يقم بها وسيط لبناني، بل تولّاها، مستفسراً، ديفيد هيل في زيارته لبيروت الأسبوع الفائت. سأل هيل عن شروط كل من الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري. الأخير قال له بوضوح: أريد أن تكون يدي حرة في التأليف. وعلى ذمة بعض الذين التقاهم هيل، ردّ الأخير بسؤال الرئيس المكلّف عن قدرة حكومته التي سيؤلّفها وحيداً على نيل الثقة في مجلس النواب. وبحسب المصادر نفسها، قال الحريري: فليسقطوها في مجلس النواب.
وصل هذا القول إلى مسامع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فبات مقتنعاً بأنه في الظروف الحالية، «الحريري لا يمانع عدم تأليف حكومة قبل نهاية العهد». هذا الاستنتاج يدفع عون إلى التركيز على معركته التي يراها أساسية: التدقيق الجنائي. فبرأيه، سقوط التدقيق يعني نهاية لبنان. لا يثق عون بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولا بوعوده. منذ أكثر من شهر، وعده سلامة بإطلاق منصّة لتسعير الدولار في السوق، تؤدّي إلى خفض سعره إلى ما دون الـ 9 آلاف ليرة. وحتى اليوم، يكرر الحاكم وعده: المنصة ستنطلق الاثنين المقبل.
بناءً على هذا «الكذب الصريح»، كما على غيره من الارتكابات التي قام بها سلامة، وأولها إخلاله بكامل واجباته القانونية، لا يرى رئيس الجمهورية حلاً سوى في كفّ يد سلامة عن متابعة عمله، إلى حين إجراء تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان. ولا يرى عون مانعاً يحول دون تولّي النائب الأول لسلامة صلاحياته القانونية. وفي غياب مجلس الوزراء، لا أحد يمكنه كفّ يد سلامة سوى القضاء.
يعوّل عون على القاضية غادة عون. ينفي أن يكون قد تدخّل في عملها. يمدح استقامتها، مؤكداً أنها ــــ في معركتها الأخيرة ــــ «لم تخطئ في الجوهر. أخطأت في الشكل». ولأجل ذلك، يتوقّع أن تأخذ هيئة التفتيش القضائي، في حال إحالتها عليها، بالأسباب التخفيفية بحقّ القاضية المتمردة.
في هذا الإطار، لا ينفي المقرّبون من رئيس الجمهورية شعوره بالندم جراء اختياره القاضي سهيل عبود لرئاسة مجلس القضاء الأعلى. فعند تعيين الأخير، لم يكترث عون لكون عبود غير محسوب عليه سياسياً. استند إلى الكفاءة حصراً، ليتبيّن له عملياً أن عبود لا يريد القيام بأيّ جهد لتغيير واقع القضاء. الخيبة نفسها يشعر بها عون… من قائد الجيش، لكن «ليس بسبب أدائه العسكري».