عريب الرنتاوي
إن صحّت أنباء «الفايننشال تايمز»، و «لا دخان من دون نار»، فإن بغداد ربما تكون شهدت أول جولة من المباحثات السعودية – الإيرانية، وعلى مستوى أمني رفيع (مدير المخابرات السعودية ونظيره الإيراني)، بعد انقطاع لقنوات التواصل دام لسنوات عديدة…الصحيفة المرموقة، قالت إن وساطة عراقية نجحت في «تسليك قنوات الحوار المغلقة»، وأن وساطات مماثلة، تدور بين كل من القاهرة وعمان من جهة، وطهران من جهة ثانية.
من دون أن نعرف تفاصيل الوساطة ونتائج المباحثات وعناوينها، فإننا نعتقد أن الرياض، ومن خلفها كل من القاهرة وعمان، ربما تكون أدركت أن مسار فيينا سائر إلى «خواتيم سعيدة»، وأن واشنطن عائدة للاتفاق النووي، وأن حقبة ترامب و»أقصى الضغوط» و»الخيار العسكري على الطاولة»، قد انتهت، لسنوات أربع قادمة على الأقل، إن لم نقل مرة واحدة وإلى الأبد.
لا بديل عن الحوار والمفاوضات بين دوله وحكوماته، لحل مشكلات الإقليم العالقة، ولا بد من تفكيرٍ جاد ومسؤول ومتبادل، يُعلي «التعاون» على «الخصومة» و»التنافس» على «الصراع»، وينطلق من مصالح الشعوب بدل حسابات فئات وشرائح ضيقة حاكمة، ونأمل أن تشكل أنباء الفايننشال تايمز، فاتحة لعهد جديد، على طريق بناء «منظومة إقليمية للأمن والتعاون»، كنّا قد دعونا لها وبشرنا بها، منذ سنوات، فـ»اللعبة الصفرية»، لا يمكن أن تظل حاكمة لعلاقات دول المنطقة، وبمقدور قادة هذه الدول، الوصول دوماً إلى صيغة «رابح – رابح».
كان يمكن للجانب العربي، أن يحصد ثماراً أفضل من انفتاحه على إيران، لو أنه فعل ذلك قبل بضعة سنوات، وإبان عهد ترامب، لكان وفّر على نفسه مبالغ طائلة، اضطر لإنفاقها على شراء الأسلحة وتكديسها، إرضاءً لجشع ترامب وفريقه الرئاسي…كانت إيران في موقع المحاصر والمستهدف، وكان أكثر استعداداً لتقديم أثمان أعلى للتقارب مع دول الجوار…إيران اليوم، بعد اتفاقها الاستراتيجي مع الصين، وبالأخص بعد الانفراج في مفاوضات فيينا النووية، فإن شهيتها لتقديم التنازلات للجيران على الضفة الأخرى من الخليج ستكون أقل من ذي قبل.
أياً يكن، فأن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، وتفعل خيراً بعض دولنا، إذ تسقط رهاناتها على «البديل الإسرائيلي» لملء الفراغ الأمريكي…إسرائيل لا تقوى على فعل ذلك، وليست لها المقدرات لفعله حتى وإن أرادت وزعمت…ثم أن رسالة التوبيخ الأمريكية لنتنياهو للكف عن «الثرثرة» و»التخريب» في الملف النووي الإيراني، تضع إسرائيل في حجمها الطبيعي من دون زيادة أو نقصان، وذلك درسٌ لنا، وبالأخص للذين يعوّلون على التطبيع مع إسرائيل، أن لمواجهة إيران، أو لإكسابهم «شرعية إضافية»، أو لتعزيز مكانتهم الاستراتيجية.
ومما يدعونا للتفاؤل بالريح الجديدة التي تهب على عواصم المنطقة، أننا نرى انفتاحاً تركياً – مصرياً، وقطرياً – مصرياً، وسعودياً – تركيا، بعد قمة العلا في المملكة السعودية، وإغلاق ملف الحصار المضروب على قطر…كما أن هناك حراكاً نشطاً من أجل إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية، يبدو أنه مختلف عمّا سبقه من محاولات.
تاريخياً، هذه المنطقة، ظلّت مسرحاً لأربعة أمم كبرى، ما زالت حيّة حتى اليوم: العربية، الفارسية، التركية والكردية…هذه «ديكتاتورية التاريخ والجغرافياً»، لا فكاك منها…وقد آن أوان وصول هذه الأمم إلى صيغ تمكنها من العيش المشترك، وحل خلافاتها بالطرق السلمية، وتعظيم أوجه التعاون والتبادل فيما بينها، وتجاوز النزعات الإلغائية والإقصائية، وتفادي «اللعبة الصفرية» في علاقاتها البينيّة، وتعظيم مشتركاتها ومصالحها المتبادلة، وهي كثيرة، لا حصر لها…فهل تعلمت دول المنطقة الدرس جيداً، إذ أصابها الإنهاك والأعياء بعد سنوات عجاف من «حروب الإخوة الأعداء»؟