الحركات الجهادية بإفريقيا : التمدد في ظل الصراع

لم يَحُل الاحتراب الداخلي بين المجموعات المسلحة المحسوبة على القاعدة وتنظيم الدولة في إفريقيا دون تمددها جغرافيًّا، بل إن الوضع السياسي والاجتماعي الهش بالقارة الإفريقية وانتشار كوفيد 19 ساعدا على هذا التمدد، ويبقى فشل الدولة الوطنية بإفريقيا عاملًا حاسمًا في هذا التمدد.

عرفت سنة 2020 صراعًا بين القاعدة وتنظيم الدولة بإفريقيا، ولم يمنع ذلك من تمدد التنظيمين أفقيًّا، ومن المحتمل أن تعرف سنة 2021 استمرار هذا الصراع، لكنه صراع لا يلغي التوسع؛ خصوصًا أن العديد من المهتمين بالقضايا الإفريقية يرى أن القاعدة وتنظيم الدولة وبعد تراجع نفوذهما في سوريا والعراق نقلا مركز ثقلهما إلى غرب إفريقيا وشرقها وأفغانستان، وإن بوتيرة أضعف، وهو ما يذهب إليه “مؤشر الإرهاب العالمي” في نسخته الثامنة الصادرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 عن “معهد الاقتصاد والسلام” بأستراليا؛ حيث شهدت منطقة الساحل، سنة 2020، زيادة في أعمال القتل بنسبة 67% مقارنة بسنة 2019.

بات الحزام الممتد من منطقة الساحل حتى القرن الإفريقي مركز نشاط الحركات الجهادية الساخن، كما ظهر حزام موازٍ له بجنوب القارة يمتد من أنغولا إلى مدغشقر مرورًا بالكونغو الديمقراطية وموزمبيق؛ حيث باتت الدول الواقعة في هذين النطاقين تواجه تصاعدًا مطردًا في عمليات الجهاديين.

صراع التنظيمين

نقلت القاعدة وتنظيم الدولة خلافهما الدموي إلى الفصائل المحسوبة عليهما بإفريقيا وهو ما يعني أن هذه القارة مرشحة أن تكون ساحة التنافس المحتدم بين جماعات الجهاد العالمية القادمة من الشرق الأوسط.

تم اختيار أبوعبيدة العنابي، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، خليفة لعبد المالك دروكدال، الذي قُتل في عملية للقوات الفرنسية، أوائل يونيو/حزيران 2020، قرب الحدود المالية-الجزائرية، وكلاهما جزائري، وقد رحبت الحركات التابعة للقاعدة بإفريقيا باختياره بينما شكَّكت تلك المحسوبة على تنظيم الدولة في تاريخه الجهادي. ومن المعلوم أن “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” بمالي الموالية للقاعدة في صراع مستمر مع جماعة “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى” الموالية للدولة الإسلامية، وقد وقعت عدة معارك بين الجماعتين. وتتخذ الأولى من منطقة أزواد أهم معاقلها في حين تتخذ الثانية الشريط الحدودي الثلاثي (النيجر-مالي-بوركينافاسو) مجالها الحيوي.

كما فشلت جميع الحملات العسكرية في القضاء على حركة الشباب الصومالي، التابعة لتنظيم القاعدة، والتي نفذت عمليات في كينيا وأوغندا والصومال. ومع نجاح الهجمات الجوية الأميركية بواسطة طائرات دون طيار في قتل العديد من قادة الجماعة إلا أن الجماعة استطاعت تعويض ذلك مرارًا. وتمكنت حركة الشباب من منع الحركات التابعة لتنظيم الدولة من التمركز بالصومال حيث ينحصر وجودها في رقعة ضيقة من شمال شرق القرن الإفريقي.

وإلى جانب حركة الشباب بالصومال، أسَّس تنظيم الدولة جيبًا في مقاطعة كابو ديلغادو بموزمبيق الغنية بالغاز والذي يحمل اسم “إمارة وسط إفريقيا في الدولة الإسلامية”. ومن أبرز عمليات هذا التنظيم المجزرة التي راح ضحيتها 50 قرويًّا تم إعدامهم في ملعب لكرة القدم في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

ولا شك أن طبيعة هذه المناطق الإفريقية قد ساعدت القاعدة وتنظيم الدولة على التمدد؛ ذلك أن بهذه المناطق أفقر دول العالم حيث تنتشر البطالة والفقر والفساد وانعدام الحكامة الرشيدة مما جعلها بيئة ملائمة، وجدت فيها الحركات الجهادية مجالًا للتوسع. بل إن بعض هذه الدول الإفريقية توجد به مناطق شاسعة خارج سيطرة الحكومة. وقد استمدت الحركات الجهادية قوتها من السياق السياسي والتنموي الهش فصارت بديلًا عن الحكومات المحلية.

هل ساعد كوفيد 19 الحركات الجهادية بإفريقيا؟

إلى جانب هذه البيئة المساعدة على توطن الحركات الجهادية بإفريقيا جاءت جائحة كورونا لتزيد في انشغال الحكومات الإفريقية ولتفرض قيودًا على الحركة، فاستفادت الحركات الجهادية من انشغال الأنظمة بالجائحة، بل إن بعض الحركات الجهادية تقول: إن كوفيد 19 كان جندًا من جنوده وعقابًا إلهيًّا لمن يقف أمام المشروع الجهادي. لذلك زادت العمليات وتسارعت وتيرتها، خصوصًا أن الجيوش الإفريقية لا يمكنها القيام بعمليات انتشار في ظل الوباء.

وربما على هذا الأساس صنَّف “مؤشر الإرهاب العالمي”، الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، الدول الإفريقية المهددة أو المحتمل تهديدها بنشاط الحركات الجهادية لسنة 2021، إلى ثلاث مجموعات:

•دول البؤرة (Epicentre countries)، وهي: ليبيا والصومال ونيجيريا ومالي.

•دول الانتشار (Spill-over countries)، وهي: بوركينا فاسو والكاميرون وتشاد وإثيوبيا وكينيا وموريتانيا والنيجر وتونس.

•الدول المعرَّضة للخطر (At-risk countries)، وهي: جمهورية إفريقيا الوسطى والسنغال وتنزانيا وأوغندا والمغرب والسودان.

والدول الإفريقية المذكورة في هذا التصنيف هي الدول الثمانية عشرة المنصوص عليها في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مشروع “منع التطرف العنيف في إفريقيا والاستجابة له: نهج إنمائي”، لذلك لا نجد في التصنيف موزمبيق والكونغو الديمقراطية وغيرها.

هل انتهى الدور الفرنسي في مواجهة الحركات الجهادية بالساحل؟

منذ يناير/كانون الثاني 2013، شرعت فرنسا في تنفيذ تدخلها العسكري في منطقة الساحل لمواجهة الحركات الجهادية فوجدت نفسها بعد ثماني سنوات غارقة في مستنقع لا تُرى نهايته، وهو يُذكِّر بغرق السوفيت ثم الأميركيين في أفغانستان. ولا تكمن المشكلة في تحديات مكافحة ما يسمى بالإرهاب في إفريقيا بل أيضًا في عناد القادة السياسيين الذين لا يريدون أن يفقدوا ماء الوجه؛ حيث انتشرت الحركات الجهادية جغرافيًّا خارج مالي واشتد العنف بين الأعراق والمجموعات القبلية المحلية.

لم يستطع الجنود الفرنسيون العاملون في عملية برخان تأمين منطقة الساحل؛ فذلك يعني حلول هؤلاء محل الجيوش الإفريقية الهشة والضعيفة، أو على الأقل يعملون جنبًا إلى جنب جيوش محلية مدانة بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين دون عقاب باسم مكافحة الإرهاب. وعلى أية حال، ومع استمرار سياسة الإليزيه في الساحل، ستجد فرنسا نفسها تدير مستعمراتها السابقة بشكل مباشر وهو أمر لا تريده باريس حتى لا تظهر بمظهر المحتل، فهي تهدف إلى القضاء على من تسميهم الإرهابيين باستنزاف مواردهم والحد من قدرتهم، وإيجاد بدائل سياسية واقتصادية للمشاريع الاجتماعية التي من شأنها الرفع من مستوى المعيشي للحواضن الاجتماعية لهؤلاء الجهاديين.

والمشكل أنه لا الجيوش الإفريقية ولا الجنود الفرنسيون في عملية برخان مستعدون للاستيلاء على المناطق التي يسارع الجهاديون لإعادة احتلالها بمجرد عودة الجنود الفرنسيين إلى قواعدهم. وهكذا، ومع الوقت، وقعت فرنسا في مأزق حقيقي وهو السعي لمحاربة الجهاديين حتى تحقيق نصر غير مرئي، ويتم ذلك دون معالجة عوامل الصراع الأخرى التي من أهمها المشكل التنموي وفشل الدول الإفريقية، وهو ما يعني في النهاية أن فرنسا تخوض حربًا عبثية. ويزداد المشهد في منطقة الساحل تعقيدًا بوجود فاعلين كثيرين ليسوا بالضرورة جهاديين بل هم مجموعة من المقاتلين (منهم من هو انفصالي، ومنهم وحدات الدفاع عن النفس، والمساعدون الأمنيون، ولصوص الماشية وشبكات التهريب…) الذين يغيِّرون ولاءاتهم وينتقلون من جماعة إلى أخرى. ويبقى التساؤل: هل سردية التهديد الإرهابي في الساحل التي كثيرًا ما رددها السياسيون الفرنسيون خطأ استراتيجي أم إنها مهمة مستحيلة فرضتها أزمة الدولة الوطنية في منطقة الساحل؟

خاتمة

تدل جميع المؤشرات على أن سنة 2021 والسنوات اللاحقة ستعرف مزيدا من الاحتراب بين القاعدة وتنظيم الدولة في إفريقيا، لكنها ستعرف تمددا لهذا التنظيمات وزيادة نفوذها أي تمدد في ظل الصراع أو صراع في ظل التمدد، وفي غياب الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في إفريقيا وفي انعدام المحاسبة للفساد ومع تفشي جائحة كورونا، وفي ظل القابلية للاستعمار ووجود القوى الأجنبية وترهل الأنظمة والسياسات الأمنية المتعثرة سيزداد الصعود الجهادي في غرب إفريقيا وشرقها بالضرورة وسيتمدد لفضاءات جغرافية أكثر.

Exit mobile version