لا يفوّت الإقتصاديون والخبراء في مجال المال مناسبة للتذكير بالضرر الذي لحق وسيلحق بالإقتصاد جراء عدم إقرار قانون “تقييد الرساميل”. فلغاية اليوم ما زال تحويل الأموال إلى الخارج يعتبر أمراً غير مخالفٍ للقانون. ولا سلطة للقضاء أو الجهات النقدية الرقابية بمحاسبة مخرجي الأموال منذ 17 تشرين الأول، وما قبل هذا التاريخ وما بعده، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات. حتى أن التعميم الشهير رقم 154 الصادر عن مصرف لبنان لا يجبر المودع على إعادة الاموال المحولة. بل هو يهدد فقط مخرجي الأموال المشبوهة بدعاوى تبييض الأموال، إن لم يعيدوا 15 في المئة منها إذا كانوا مودعين عاديين، و30 في المئة إذا كانوا من أعضاء مجالس إدارة المصارف والأشخاص المعرّضين سياسياً (PEP). وبغض النظر عن تعارض هذا التعميم مع أصول العمل المصرفي السليم، وإثارته جدلاً قانونياً عميقاً، إلا أنه يشكل إعترافاً بالعجز عن مطالبة مخرجي الأموال على إرجاعها، خصوصاً إذا كانت الأموال غير مشبوهة بتهم الفساد وسرقة المال العام وتبييض الأموال وخلافه من التهم المالية.
الأساس الخاطئ
على عكس ما يعتقد الكثيرون من أنه كان يجب البدء بتطبيق قانون “الكابيتال كونترول” بعد إندلاع ثورة 17 تشرين الأول، يرى رئيس فريق الأبحاث الإقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل أنه كان من الواجب إقراره في 2 أيلول من العام 2019. “فبعد خروج قادة الأحزاب من اجتماع قصر بعبدا الشهير غداة ذاك اليوم، أعلنوا حالة الطوارئ الإقتصادية. ولكن بدلاً من متابعتها باجراءات جدية ومهام تنفيذية، وفي مقدّمها إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، انصرف كل واحد منهم إلى شأنه، وتركوا الإقتصاد يتخبط في مشاكله. فلم يتخذ لغاية اليوم أي إجراء، مهما كان بسيطاً، للجم التدهور الإقتصادي وتراجع الثقة. ولم يقدّم أي تصور جدي لكيفية الخروج من الأزمة”. وعلى الرغم من أخذ مجلس النواب بملاحظات صندوق النقد الدولي الواقعة في 7 صفحات على مشروع القانون، وعقد البرلمان العديد من الجلسات العامة إلا أن “الكابيتال كونترول لم يجد طريقه للخروج إلى العلن وبقي عالقاً في الأدراج. وذلك مع العلم أن المجلس أقرّ قوانين أقل إلحاحاً وأهمية منه”، يقول غبريل. “فبقي هذا القانون محط تقاذف بين مختلف القوى السياسية منذ عهد حكومة الرئيس سعد الحريري مروراً بحكومة حسان دياب، ووصولاً إلى لجنة المال والموازنة ومجلس النواب. وهو اليوم لا يتطلب وجود حكومة بل فقط الإقرار في البرلمان”.
إفقاد القضاء مصداقيته
هذا الواقع ينذر بما هو أسوأ في المستقبل، فالمشهد الذي رأيناه قبل يومين، أي ما فعلته القاضية غادة عون مع شركة مكتف، “يُفقد بحد ذاته صدقية المؤسسات”، يقول عضو المجلس إلاقتصادي والإجتماعي د. أنيس بو دياب، “فمن جهة فقدت المؤسسة القضائية مصداقيتها. لأنه بحسب الظاهر من القوانين لا يحق للقاضية عون متابعة هذا الملف بعد كف يدها قضائياً عنه. ومن جهة الثانية أساء هذا التعامل غير المحترف، مع واحدة من أكبر الشركات المالية في لبنان التي تستحوذ على نحو 50 في المئة من شحن الأموال بين لبنان والخارج، إلى صورة كل المؤسسات المالية وعرّضها للمزيد من الأخطاء. خصوصاً بعد اتخاذ العديد من المصارف المراسلة في الخارج Correspondent Bank وقف معاملاتها مع نظيرتها اللبنانية بسبب زيادة المخاطر على الحسابات وإنعدام الثقة”. ومن شأن إضافة هذه القضية إلى الدعاوى بحق المؤسسات، المصارف وحاكم المصرف المركزي، بغض النظر إن كانوا مذنبين أم لا، إحداث المزيد من التشرذم والضياع، لأن مفتاح الحل للأزمة الإقتصادية ووقف انهيار الليرة هو الثقة. وبالتالي فان هذه المشهدية تعمق أزمة الثقة أكثر وأكثر.
تهديد التدقيق الجنائي
ما جرى من “تهريج” سياسي أمام مكتب شركة مكتف، وأخذ ملف بهذه الأهمية والدقة والحساسية بالشعبوية الفارغة طرح عدة علامات استفهام عن مصير التدقيق الجنائي. فهل كان المقصود من”الغارة” على شركة مالية بشكل غير قانوني، باعتراف الحقوقيين، وتعتبر شاهدة في القضايا المالية بحسب مديرها العام وليست متهمة، اعطاء المثل عن كيفية التعامل مع التدقيق الجنائي، إذا قدّر الله حصوله. وهل الهدف استعمال هذه الواقعة، التي لن تثبت شيئاً، كذريعة في المستقبل أو سابقة لتفشيل عمل التدقيق الجنائي في القضايا المالية والنقدية الجوهرية. أسئلة من المشروع طرحها، خصوصاً أن “التدقيق الجنائي لن يسمي أسماء المتهمين، بل يضع خريطة طريق توضح كيف أنفقت الأموال وبأي طريقة، وكيف جرى تحويلها وبأي صندوق وضعت وكيف جرى التصرف بها، والقضاء هو من سيلاحق القضايا ويبت بها”، يقول بو دياب، “فاذا كنا اليوم نضرب مصداقية القضاء، ومشهد الأمس يأتي في هذا السياق، فما حاجتنا إلى التدقيق الجنائي عندها، إن لم يكن هناك قضاء محايد وشفاف ومنضبط يبت بالقضايا ويلاحق المخالفات ويوقف المرتكبين”.
ما جرى قضائياً، وكيفية تفاعل السلطة السياسية الممثلة بوزارة العدل معه أفقد الجميع الثقة بواحدة من أكثر المؤسسات، التي كانوا يعوّلون عليها للنهوض من الأزمة الإقتصادية والمالية ومحاسبة المخالفين وإحقاق الحق. فالخروج من الأزمة يتطلب، بحسب بو دياب، “إعادة تدفق الرساميل إلى البلد، وهذه الرساميل لا تأتي من المستثمرين إلا في حال توفر شرطين أساسيين: الإستقرار الأمني والإستقلال القضائي. ومن بعدها يأتي الثبات النقدي وغيرها الكثير من المتطلبات. لكن بالنظر إلى الوضع اللبناني نرى أن القرار بالسيادة الوطنية مفقود، والإستقرار النقدي غائب، ويجري حديثاً ضرب الإستقلال القضائي”. وهذا ما سيزيد، من وجهة نظره، “عمر الأزمة ويطيل فترة التعافي، حتى بعد استقرار الأوضاع”.
تهمة شركة مكتف أنها ساعدت على إخراج أموال من البلد. وبغض النظر عما قاله ميشال مكتف بصفته أحد المساهمين بالشركة أن الإتهام مجافي للعقل والمنطق، لانه لا يندرج من ضمن أعمال وصلاحيات المؤسسة كشركة شحن أموال تتعامل مع المؤسسات والبنوك، فهذا الإتهام يعتبر باطلاً ما لم يكن هناك قانون يمنع تحويل الأموال. وكان الأجدى بـ”المستشرسين” بالدفاع عن الحق العام، الضغط على ممثليهم البرلمانيين لإقرار قانون تقييد الاموال بدلاً من رمي التهم جزافاً وحرف الرأي العام عن لب المشكل الحقيقي.