منير يونس
وصل اللبنانيون الى المفترق الوجودي. ظن معظمهم أن الأزمة عابرة، وسيعود رغد العيش برغم التناكف السياسي الطافح بكيديته، والطائفي الناضح بعنصريته. فاذا بالأزمة تتعمق وتتجذر، وتستعصي على الحلول، فاسقط ما بيدهم، حتى تسمروا منتظرين قدرهم بسلبية بالغة، وتسليم غريب بمشيئة لا حول لهم فيها ولا قوة! ساهم لبنانيون ضد آخرين في إجهاض “حراك 17 تشرين”. فانتظر الفاشلون ندم المفشلين. لم يتل أي من الطرفين فعل الندامة. وبقي الأمر معلقاً لإنصاف التاريخ. تخيل من يُجهض حماسة “الثائرين” انه يُخلص البلد من كارثة، فاذا بالكارثة تقع من حيث لم يحتسب. ومن توهم نجاح الثورة بشعارات تفتقد أدوات التغيير المناسبة اكتشف ان الكارثة أكبر من طاقته على الحؤول دون وقوعها أو معالجة تداعياتها. بعد التعادل السلبي، ومنذ عدة أشهر، بدأنا نسمع كلاماً جديداً تلتقي عنده شرائح من الطرفين مثل:”نستحق كل هذا البؤس الذي حلّ بنا”، أو “هذا من صنع أيدينا”! *** ما كنه هذا الاعتراف الاستسلامي وما دوافعه؟ ولماذا التعبير الفاقع عن اليأس المُدمي للقلوب والعجز المُحير للعقول؟ ولماذا رمى الحالمون بغد افضل اسلحتهم ورفعوا راياتهم البيض؟ وما حقيقة قولهم: “نحن ميتون سريرياً، لا الثورة المزعومة نجحت ولا السياسيين اتعظوا ولا المصرفيين استحوا ولا مصرف لبنان اعترف بما اقترفه ولا القضاة انتفضوا ولا اللبنانيين تضامنوا، ولا الخارج سارع للانقاذ”؟ ولماذا يضيفون: “الله يستر من أعظم. فلا نحتاج الآن الا خبزنا.. كفاف يومنا”! تتناقض تفسيرات الاستسلام الظاهر منه والباطن وتتقاطع. نتراشق بالاتهامات ونتقاذف المسؤوليات: بيننا من لن يخرج من طائفيته الضيقة الى الرحاب الوطنية. لا نجتمع على تشخيص أمراضنا ولا نتفق على برنامج علاجي اصلاحي. نعجز عن فضح الفاسدين ولا نعترض على النظام النفعي الزبائني. مختلفون على علاقاتنا بالخارج ونخلط بين العدو والصديق. يبقى زعيمنا حاجة ماسة لمواجهه تغول الزعيم الآخر. لا نعرف الصالح العام كما يجب والمصلحة الخاصة فوق كل اعتبار. نميل للصرف أكثر من طاقتنا. لا وعي مالياً كافياً لدينا. نفضل الريع السهل على الانتاج الصعب. كيف وصل اليائسون منا الى جلد ذاتهم على هذا النحو المازوشي؟ *** استطاع السياسيون الدهاة المنتصرين على هشاشة عظامهم العتية توزيع الأدوار الاتهامية على بعضهم البعض بحجج التناحر الحاد في ملفات السياسة والاقتصاد. وللمثال، ما ادخال التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان مغارة التوازي في كل الوزارات والادارات والهيئات والمجالس الا من ضروب التهويل المبرم باستحالة المحاسبة. لذا، ما على اللبنانيين اليائسين، مسلمين ومسيحيين، إلا التسليم بحصانة الفاسدين الى أبد الآبدين. اشتد العصب الهوياتي الأشبه بالنزعة القبلية والفزعة الإتنية والمناطقية. فتخندقت كل “هوية” في هوتها برغم عفونتها، وسلمت أمرها لولي الأمر الطائفي قبل ذلك وبعده، يعلم الساسة أنه برغم ضخامة الأزمة ووصول مفاعيلها الى رغيف الخبز الحافي، لن تستطيع غالبية اللبنانيين الخروج بسهولة من الخندق الطائفي الذي تمترسوا فيه تعصباً طوعاً أباً عن جد، أو اقتيدت اجيالهم المتعاقبة الى حروبه قسراً بهواجس هوياتية متخيلة مستمرة بمفاعيلها السامة المضادة لأي تضامن وطني حقيقي جامع منذ فتنة العام 1860 الى اليوم. لذا، فلا غرابة في رؤية مشهد سوريالي لا يشبه فيه الجوع في الهرمل نظيره في عكار. وعوز الطريق الجديدة مختلف عن الضاحية الجنوبية. وضيق كسروان لا يشبه جبل عامل. وشظف عيش الشوف لا يمت بصلة لمعاناة طرابلس. فبين نقص الغذاء والخوف المرعب من الجوع من جهة، وبين غيرة الدين او المذهب من جهة أخرى، انتصرت الأخيرة برغم زيفها وبهتانها بالمعنى السماوي المفترض للكلمة. وهكذا اشتد العصب الهوياتي الأشبه بالنزعة القبلية والفزعة الإتنية والمناطقية. فتخندقت كل “هوية” في هوتها برغم عفونتها، وسلمت أمرها لولي الأمر الطائفي. *** دفع ضيق العيش أناساً الى التمسك بالزعيم أكثر من ذي قبل عله يسعفهم في هذه الضائقة الخانقة التي برؤوه من أسبابها من حيث لا يدرون، واعتقدوا مجدداً انه مخلصهم بكرتونة اعاشة ولقاح كورونا، او بسحب اي مبلغ زهيد محتجز في البنك، وما الى ذلك من فتات الرمق الأخير. والأدهى ان مئات آلاف الموظفين في القطاعين العام والخاص المتبخرة رواتبهم بهبوط سعر صرف الليرة 85 في المائة نزعوا صواعق تفجير غضبهم، خوفاً على وظائفهم التي حصلوا عليها بالواسطة وبفضل الزعيم ورعاية أزلامه كبار “المحاسيب” المغروسين خناجر مسمومة في كل جسد الدولة تقريباً. وهنا يكمن تفسير استسهال التضارب على السلع المدعومة وتناتشها بفجعنة مهينة مقابل استصعاب اطلاق صرخة مدوية امام منزل نافذ فاسد ومتسلط؟ *** “نستحق ما يحصل لنا”، هو تعبير مرير عن شبه اليأس التام من تغيير النظام. فاذا كانت الشعوب الديموقراطية تنتظر الانتخابات النيابية لتعبر عن رغبة التغيير، فان اللبناني سلم جدلاً بأن لا فائدة ترجى من الانتظار العقيم. فخياطو السياسة التحاصصية أنفسهم يحيكون القوانين الانتخابية على مقاساتهم أو مقاسات حقوق طوائفهم كما يرغبون بالأسلوب الثعلبي المعهود. وبالتالي سيعودون أو من يمثلهم بنسبة عالية، ولا عزاء للأقلية المعترضة ضمن النظام المتسع ظاهراً (وزوراً) للطرح التغييري الجذري. رأى مواطنون بأم العين الحزينة انهم الحلقة الأضعف في نظام موثوق العرى طائفياً ومصرفياً وقضائياً وأمنياً وتجارياً، في بوتقة طغمة اتفقت برغم تناقضاتها على عدم تحميل الخسائر لاصحاب المصارف المغامرين وذوي الودائع الدسمة المتراكمة على حساب المال العام والحال هذه، ضاعت بوصلة فئات كثيرة بين شعارات طلب العيش الكريم والاصلاحات المطلوبة. ثم بدأت باكتشاف أمر مريب لم يكن في حسبانها أبداً: الاصلاح الحقيقي يعني تضحيات جسيمة وعيش متقشف وعض على جمر الفقر وضيق ذات اليد. إقرأ على موقع 180 أحداث 6/6: من يريد توريط العسكر بمواجهة الشارع؟ ظنّ مواطنون انهم بإعلاء الصوت الاعتراضي سيحافظون على المكتسبات ويخيفون الزعماء من غضبهم “الساطع”. لكن سرعان ما اضمحل الوهم ليكتشفوا ان الفجوة اعمق كثيراً مما اعتقدوا وافدح مما تخيلوا. واتضح ذلك جلياً بعدما تيقنوا من تبخر عشرات مليارات الودائع الدولارية الى غير رجعة قريبة وربما بعيدة، وانهيار سعر صرف الليرة على نحو هستيري واستحالة عودتها الى سابق عهدها الميمون. *** مالياً ومصرفياً، لم يرحم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولا جمعية المصارف اللبنانيين. أصر الطرفان المذكوران على تحميل “الضعفاء قليلي الحيلة” المسؤولية. فالحاكم دافع عن سياسة نقدية يدعي انها جلبت الرخاء ورفعت مستوى المعيشة محملاً الدولة وزر التقاعس عن الاصلاح، وهرب من تعريف “الدولة” التي هي عملياً مختزلة بشركائه وحماة أفعاله من السياسيين ورجال الدين ومن لف لفهم من الانتهازيين. وزورت المصارف الحقائق محاولة ً اقناع من تريد اقناعهم بان أموالهم عند الدولة.. والدولة مفلسة، بينما هي عند مصرف لبنان الذي بددها خلافاً لقانون النقد والتسليف خدمة لطبقة سياسية متمادية في غيها. والانكى في ما اكتشفه اللبنانيون من اطباق محكم على القضاء الذي عجز (عمداً وبالتواطؤ السياسي والطائفي) عن محاكمة من بدّد امواله وسرق الدعم المخصص لمعيشته المتردية. ورأى مواطنون بأم العين الحزينة انهم الحلقة الأضعف في نظام موثوق العرى طائفياً ومصرفياً وقضائياً وأمنياً وتجارياً، في بوتقة طغمة اتفقت برغم تناقضاتها على عدم تحميل الخسائر لاصحاب المصارف المغامرين وذوي الودائع الدسمة المتراكمة على حساب المال العام، وحمت كبار التجار والمحتكرين الجشعين وغطت القضاة الساكتين عن الحق. *** لم يرحم خبراء مال واقتصاد ضعف الناس وقلة حيلتهم، لا بل توسعوا بشيء من المباهاة في شرح مستفيض لا طائل تحته بعد خراب البصرة، بالتركيز على خطأ تثبيت سعر الصرف لتقوية الليرة وخطيئة الافراط في الاستهلاك، حتى كاد مواطنون يشعرون بالذنب ويخجلون من انفسهم. شاهدوا كيف ان زعماءهم، الذين اجهضوا الإصلاحات منذ 20 سنة على الأقل، يمعنون في التعطيل دائماً وأبداً، ولا هم يحزنون وتمادى خبراء في “ساديتهم” مذكرين ليل نهار بما كانوا نبهوا من خطورته مثل التوسع في الاقتراض بالدولار ورفع فوائد الليرة وزيادة عديد القطاع العام بالحشو الوظيفي واقرار سلسلة الرتب والرواتب.. فشعر لبنانيون ان ما كان لغزاً بالنسبة اليهم ولا طاقة لهم على فهمه ولا صبر لديهم على تحليله. هو كلام سليم في الصميم، وهم جزء لا يتجزأ من الأسباب والنتائج. *** أمام انسداد الأفق محلياً، انتظر لبنانيون تدخل الخارج للإنقاذ. منّوا النفس بمساعدات وقروض انقاذية جرياً على العادة التسولية منذ مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وسيدر. فاذا بهم يفاجأون هذه المرة بمطالب اصلاحية مطلوبة بقوة الضغط الزجري والشرط الإرغامي. برغم المفاجأة غير السارة، ظنوا أن الأمر ممكن، فلعل وعسى! الى ان شاهدوا كيف ان زعماءهم، الذين اجهضوا الإصلاحات منذ 20 سنة على الأقل، يمعنون في التعطيل دائماً وأبداً، ولا هم يحزنون. وامعانا في القهر والتيئيس، تفتقت أذهان المتناحرين المعطلين عن رهانات متقابلة بين شرق وغرب، وبين عرب وعجم. فتفاقم الانقسام عمداً حد الاتهامات بالعمالة والارتهان والارتزاق وغيرها من النعوت التي غذاها الخارج قناعةً منه بحتمية تاريخ لبنان المنقسم على نفسه الهشة والمحشور في جغرافيته اللعينة، والمناوئ لغيره تحرراً حيناً، وتآمراً موروثاً أحياناً أخرى منذ تعامل الأمير فخر الدين المعني الثاني مع توسكانا نكاية بالعثمانيين في القرن السادس عشر. مع ذلك، بقي الرهان على الخارج، وراود لبنانيون حلم انهيار الطبقة السياسية امام ضغوط الخارج الذي توسع، على غير عادته، في توبيخ وإهانة تلك الطبقة، متهماً إياها بالفساد والتعطيل والاستئثار السلطوي بالاستبداد المقنع. وعوّل بعض اليائسين على عقوبات تكسر ظهر هذا أو ذاك من حراس الهيكل. لكنهم يكتشفون بكثير من الذهول قدرة اضافية عالية جداً على المناورة تتمتع بها تلك الطبقة الحاكمة التي راح بعضها يراهن على “خارج” ضد آخر، ويلعب على تضارب مصالح الدول، محولين المشهد من أزمة تحتاج حلاً الى ما يشبه الرقص على رؤوس الثعابين.