القيصر والسلطان.. وبينهما البحر الأسود
سميح صعب
بعد عودة النزاع الأوكراني إلى حماوته وإثارة الجدل في تركيا حول اتفاقية مونترو التي تضع قيوداً على حركة دخول السفن العسكرية إلى البحر الأسود عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، ساد العلاقات الروسية-التركية فتور واضح، برغم حرص موسكو وأنقرة على نفي ذلك. فماذا يجري بين القيصر والسلطان؟ الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، وصلا إلى السلطة في بلديهما قبل عقدين من الزمن، وهما متقاربان في السن والطموحات، وإليهما يعود القرار الأخير في بلديهما، ويخططان للإستمرار في الحكم حتى عام 2036، ونسج كلاً منهما “ديموقراطية” على طريقته ومقاسه. ومع ذلك، فإن مظاهر الود التي يحرصان على إظهارها في العلن منذ سنوات، يشوبها نوع من التقية التي تخفي تحتها تناقضات وتضارب في المصالح بين روسيا وتركيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز وصولاً إلى أوكرانيا. في الأساس، تركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي وكانت قاعدة رئيسية للغرب في الحرب الباردة. وعندما أدخل الإتحاد السوفياتي صواريخه إلى كوبا، أتت الولايات المتحدة بقنابل نووية إلى قاعدة أنجيرليك التركية، وكانت تلك الخطوة عاملاً رئيسياً في الضغط على نيكيتا خروتشيف لسحب الصواريخ من كوبا. وكان رهان تركيا دائماً على الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي ليكتمل إندماجها بالغرب. لكن العقبات التي واجهت عملية الإنضمام إلى “النادي المسيحي”، جعلت أردوغان يتجه منذ أكثر من عقد إلى الشرق منقباً عن إرث إمبراطورية أجداده من السلاجقة ومن بعد العثمانيين. وكلما كانت علاقات أردوغان تزداد تعقيداً بالغرب، كان يتجه نحو توطيد علاقاته مع روسيا وصولاً إلى الحرب السورية، التي كانت مرحلة مفصلية في العلاقات بين أنقرة وموسكو. وعندما دخلت روسيا عسكرياً إلى سوريا في أيلول/ سبتمبر 2015، لم تكن هذه خطوة مستساغة من تركيا التي سبق أن نشرت صواريخ “باتريوت” أطلسية على أراضيها في ذروة الحرب. وفي الأشهر الأولى للتدخل الروسي، أسقطت طائرات تركية مقاتلة “سوخوي” روسية، وبدا أن البلدين قد يدخلان في مواجهة مباشرة، إذا لم يستدركا خطواتهما ويحاولان “التعايش” فوق الارض السورية، فكانت عملية أستانا لـ”خفض التصعيد”. إلا أن تقرُب أردوغان من روسيا، الذي تُرجم اقتصادياً بمد خط للغاز الروسي إلى تركيا ومنه إلى دول جنوب أوروبا، وعسكرياً بصفقة نظام الدفاع الجوي “إس-400″، كان بمثابة رد على الجفاء الغربي، اكثر منه تحولاً استراتيجياً في التموضع الجيوسياسي لتركيا. روسيا غير قادرة عملياً على خوض نزاع مباشر مع تركيا، التي على رغم خلافاتها مع واشنطن وأوروبا، تبقى عضواً في حلف شمال الأطلسي وتملك ثاني أكبر جيش في هذا الحلف بعد الولايات المتحدة. وعليه، كان السعي الروسي إلى إحتواء الدور التركي في سوريا وفي قرارة نفسه، يدرك بوتين أن أردوغان التجأ إليه لأن علاقاته بالولايات المتحدة وأوروبا ليست على ما يرام. فمثلاً لو تزوده أميركا بمقاتلات “إف-35” لما كان ذهب لشراء الصواريخ الروسية المصممة أصلاً للتصدي لهذا الطراز من المقاتلات المعقدة وغيرها. إنها لعبة المصالح الدائمة وليست الصداقات الدائمة. وفي الواقع تعرف روسيا أن الدور التركي في سوريا غير بنّاء من الطلقة الأولى للحرب، وأن تركيا سهلت دخول المقاتلين المتشددين من الخارج إلى سوريا، في معرض سعيها لإسقاط النظام في أوج موجة “الربيع العربي”. لكن روسيا غير قادرة عملياً على خوض نزاع مباشر مع تركيا، التي على رغم خلافاتها مع واشنطن وأوروبا، تبقى عضواً في حلف شمال الأطلسي وتملك ثاني أكبر جيش في هذا الحلف بعد الولايات المتحدة. وعليه، كان السعي الروسي إلى احتواء الدور التركي قدر الإمكان في سوريا. وعلى غرار سوريا، كادت روسيا وتركيا تنزلقان إلى مواجهة في ليبيا، لأن كلاً من موسكو وأنقرة تقفان على طرفي نقيض من الصراع هناك. روسيا تدعم اللواء خليفة حفتر وتركيا تدعم حكومة الوفاق الوطني السابقة التي كانت تتخذ طرابلس مقراً لها، إلى أن كانت هدنة سرت، والإنتقال إلى عملية سياسية أفرزت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وفي أذربيجان، تكرّرت الحكاية نفسها. وقفت تركيا مع أذربيجان وكانت عاملاً حاسماً في ترجيح الغلبة لمصلحة باكو، بينما ساند الروس أرمينيا ومنعوا الجيش الأذري من إستعادة كامل إقليم قره باخ الذي تقطنه غالبية أرمينية. وكان الإمتعاض الروسي من الدور التركي بادياً بوضوح خصوصاً لجهة نقل مقاتلين من المعارضة السورية ـ وقيل إن بعضهم من تنظيمات جهادية ـ إلى أرض المعركة في الإقليم المتنازع عليه. أوكرانيا حكاية مختلفة لأوكرانيا قصة مختلفة، لا يمكن لروسيا أن تتسامح معها ولا مع إلغاء اتفاقية مونترو. عشية استقبال أردوغان للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اسطنبول في العاشر من نيسان/ أبريل الجاري، اتصل بوتين بالرئيس التركي الذي أبلغه أنه يلتزم اتفاقية مونترو، في ضوء طلب الجيش الأميركي إدخال سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود. وبموجب الإتفاقية يجب أن تبلّغ السفينتان بالمدة التي ستبقيان فيها في المنطقة، لأنه يُمنع على البحرية التابعة لدول غير مطلة على البحر الأسود من الإقامة الدائمة فيه. إقرأ على موقع 180 واشنطن تريد، طهران تريد.. ولكن؟ في اليوم التالي، صدر بيان تركي-أوكراني مشترك يؤكد على “مواصلة التنسيق في شأن الخطوات الهادفة إلى استعادة وحدة أراضي أوكرانيا داخل الحدود المعترف بها دولياً، وخصوصاً تحرير جمهورية القرم، ومدينة سيفاستوبول، ومنطقتي دونيتسك ولوغانسك من الإحتلال” الروسي. والبيان، لم يكن النقطة الوحيدة التي تستفز روسيا، بل إن النقطة الأهم والأخطر تتمثل في التعاون العسكري الأوكراني-التركي المتزايد وخصوصاً على صعيد تزويد كييف بمسيرات تركية تعتبر اليوم من الأحدث في العالم، وسبق أن لعبت دوراً حاسماً في معارك إدلب عام 2019 وبعدها في ليبيا وأذربيجان. مهما كانت دوافع القرار الروسي، فإن مجمل المواقف التركية من الأزمة الأوكرانية، من الطبيعي أن تولّد قلقاً لدى الكرملين، الذي لا يمكن أن يسمح بما سمح به في سوريا وليبيا وأذربيجان. هذه المرة ستدور رحى الحرب على أراضيه لكن ما علاقة الجدل حول اتفاقية مونترو بما يجري في أوكرانيا؟ في وقت سابق من الشهر الحالي، إستفاقت تركيا على بيان موقع من أدميرالات متقاعدين في البحرية، يطالبون الحكومة التركية بالتوقف عن خطة لشق “قناة اسطنبول” التي ستكون عبارة عن ممر مائي موازٍ لمضيقي البوسفور والدردنيل. والقناة الجديدة لا تخضع لأحكام اتفاقية مونترو. وعليه يمكن أن تستفيد بحرية دول حلف شمال الأطلسي من القناة الجديدة للإبحار نحو البحر الأسود والإقامة فيه على نحوٍ دائم، وتالياً تغيير الموازين الجيوسياسية التي حكمت المنطقة لعقود، وفق ما يستخلص الكاتب متين غورجان، في مقال نشره في موقع “ألمونتيور” قبل أيام. هنا يكمن القلق الروسي من خطوة كهذه في حال أقدم عليها أردوغان الذي يمكن أن يفعل أي شيء من الآن فصاعداً من أجل ضمان بقائه في السلطة، وسط تراجع واضح في شعبيته بسبب التردي الإقتصادي وتداعيات كورونا. كما أن أردوغان الطامح إلى ترميم علاقاته بالرئيس الأميركي جو بايدن، قد يستخدم ورقة “قناة اسطنبول” رافعة للتقرب من سيد البيت الأبيض الجديد، وفق ما يقول غورجان. وهكذا، فإن أردوغان يبدو وكأنه على أعتاب خوض مغامرة خطيرة من شأنها إضعاف الموقف الروسي في البحر الأسود وأوكرانيا وتمكين الولايات المتحدة والحلف الأطلسي من بلوغ شواطىء روسيا. في خضم الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، إتخذت روسيا قراراً بخفض رحلات طيرانها إلى تركيا اعتباراً من 15 نيسان/ أبريل وحتى الأول من حزيران/ يونيو المقبل. واعتبر مراقبون أن هذا القرار أولى الإشارات الروسية على الإستياء من الأداء التركي الأخير، علماً أن الكرملين حرص على نفي أي فتور في العلاقات مع انقرة، وعزا سبب خفض رحلات الطيران إلى القيود المفروضة نتيجة وباء كورونا. ومن جانبه، نفى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن يكون ثمة فتوراً في العلاقات مع موسكو. ومهما كانت دوافع القرار الروسي، فإن مجمل المواقف التركية من الأزمة الأوكرانية، من الطبيعي أن تولّد قلقاً لدى الكرملين، الذي لا يمكن أن يسمح بما سمح به في سوريا وليبيا وأذربيجان. هذه المرة ستدور رحى الحرب على أراضيه!