كتب جيلبير ج. رزق…
ليس خافياً على أحد أنّ لبنان يسير كالطائرة التي تُحلّق وقد أُطفئت مُحرّكاتها. الكلّ يعلم أنّنا قاب قوسين من السقوط الكبير، لكنّ الأداء السياسي لأهل السلطة يؤكّد لنا يوماً بعد يوم حجم اللّعنة التي حلّت علينا لحظة استلام “كارتيل المافيا والميليشيا” دفّة البلاد بشكل رسمي.
يغوص كثيرون في تحليل ما وراء الاكتفاء، بالتفرّج واستمرار المماحكات وشدّ حبال المحاصصة، والتعطيل والتعطيل المضاد، ويسأل المراقبون: لماذا يغيب المعيار في تشكيل حكومة اختصاصيين ولماذا يفتي البعض كل يوم في معايير تعجيزية تطيح كل مساعي الحلحلة؟ وغيرها من الألغام والأفخاخ التي تنفجر يومياً على طريق الخروج من الدهليز الذي دخلنا فيه. لكن الأكيد أنّ قطبة مخفية وراء استمرار الجلجلة التي نعيش، وأمام ما يجري: هل نحن أمام أزمة حكم أم أزمة حكّام؟ هل هي أزمة إرادة شعبية أl أزمة نظام؟ ورغم الإصرار الظاهر في العلن الذي يُبديه “حزب الله” بشأن تولّي الرئيس سعد الحريري رئاسة الحكومة، إلّا أنّ العلاقة التي تربط الحزب بعون تبقى هي بيت القصيد.
تقول مصادر متابعة للعلاقة بين الفريق السياسي لرئيس الجمهورية ميشال عون و”حزب الله” إنّ الارتباط الوثيق بين الطرفين تطوّر منذ اتفاق 6 شباط، على عكس ما يحاول رئيس “التيار الوطني الحر” اليوم تصويره وكأنّه توجد ملاحظات حول وثيقة التفاهم التي وُقّعت آنذاك. هذه المحاولات اليائسة لإظهار التمايز للجهات الغربية سقطت، وتُوّج سقوطها بفرض عقوبات على صهر الجنرال.
ليس وليد الصدفة أن يعمل جبران باسيل على تطوير هذه الالتزامات السياسية مع المحور الإيراني حتى تحولت إلى تلزيمات سياسية حصل عليها عون وباسيل مقابل دعم الحزب للجنرال، وتبلورت اتفاقاً ضمنياً بين الجانبين عنوانه نظام جديد. وتؤكد المصادر أنّ عون وعد بألّا ينتهي عهده الرئاسي من دون تعديل جوهري في النظام اللبناني، سيستفيد منه أولًا وأخيراً “حزب الله”، وسيعزّز من حضوره وصلاحياته داخل المؤسسات اللبنانية لاسيما لناحية حصوله على “المثالثة” التي لم يعد سرًّا سعي الحزب للوصول إليها.
وتقول المصادر أيضاً إنّ هذا التعهّد فرض نفسه نقطة ارتكاز لدى حارة حريك وجعلها تذهب بعيدًا في فرض عون كمرشح لرئاسة الجمهورية مهما كان الثمن وتفضيله من بين الحلفاء، وقد تمادى الحزب في حينه بعملية التعطيل الدستورية التي سبقت وصول عون إلى سدّة الرئاسة.
هذا التفاهم لم يبقَ طي الكتمان إذ عبّر عنه، بطريقة أو بأخرى، رئيس الجمهورية ميشال عون خلال مقابلة مصوّرة له مع الزميل ريكاردو كرم، عندما تحدّث عن أنّ “الجمهورية اللبنانية باتت جمهوريات” وأنّ “ما من سبيل غير الجلوس والنظر في النظام، لأنّ النظام الحالي لم يعد يستطيع الاستجابة إلى المشاكل التي ألمّت بنا”.
عندما نستعرض المشاكل الدستورية وفترات التعطيل الدستوري التي مرّ بها لبنان، نجد أنّ مسألة تطوير النظام لا بدّ منها للانتهاء من الفقرات الدستورية الغامضة التي تترك مجالًا واسعًا للتفسير والتأويل، إضافة إلى عدم الوضوح في النصّ الدستوريّ حول من هي الجهة المخوّلة تفسير النصوص الدستورية وغيرها من المشاكل البنيويّة في دستورنا اللبناني، وصولاً إلى بناء حصانة قضائية تؤمّن فصل السلطات، خصوصاً السلطتين التنفيذية والقضائية، إلى ما هنالك من إصلاحات يتحتّم علينا القيام بها لقيامة لبناننا الجديد.
هذه كلها مطالب حق لكن متى يُراد بها باطل؟ لا شك أن الشروع بهذه الورشة الدستورية بالتوازي مع السكوت عن وجود ميليشيا مسلّحة تفلش مسلّحيها في الإقليم، وتجلس إلى طاولة واحدة مع أفرقاء لبنانيين عزّل، يجعل من المطالب المحقّة باطلة حكماً، خصوصاً أن ّأسلوب جرّ اللبنانيين إلى هذا المؤتمر التأسيسي المنشود من الحليفين يأتي من خلال تفريغ ما تبقى من مؤسسات دستورية من مضمونها، إن بفعل المحاصرة والتعطيل أو من خلال التهميش وابتداع أعراف وسوابق جديدة ليس آخرها مسألة احتساب وزارة المال كحصّة مثبتة للطائفة الشيعية.
لبنان المنهار اليوم، يواجه أشدّ حصار اقتصادي ومالي منذ نشأة دولة لبنان الكبير، بسبب وجود دويلة أقوى من الدولة واستمرار سيطرة “كارتيل المافيا والميليشيا” على كل مُقدّراته ومعابره، أي أنّ قرار الدولة مخطوف بالكامل من قبل هذه المنظومة، ما يجعل من أي تعديل في النظام قبل الاحتكام إلى الشعب اللبناني من خلال انتخابات نيابية ومجلس نواب جديد تسليماً لهذه الميليشيا، مع ما تبقّى من أختام رسمية في المؤسسات اللبنانية.